التعريف العربي للديمقراطية

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

هناك محاولات متنوعة ومستمرة ومتصاعدة، خارجية وداخلية، لإشغال الإنسان العربي، وعلى الأخص الشابات والشباب، بالظرفي والمؤقت والعابر، حتى لا يكون لديه الوقت للتركيز على الثابت والجوهري. ولذلك فما إن تنطفئ نار في مكان، حتى تشعلها تلك الجهات في مكان آخر، تساعدها في كثير من الأحيان غوغائية مفتعلة باسم الدين أو المذهب أو الكرامة الوطنية أو غيرها من الشعارات المنفِّسة للاحتقان الدائم في الإنسان العربي.

 من بين الثوابت التي يجب ألا تغيب عن المسرح العام ولا ليوم واحد، فكراً ونقاشاً ونضالاً، موضوع انتقال المجتمعات العربية إلى نظام سياسي اقتصادي ديمقراطي عادل. ولأنه لا يوجد تعريف واحد لكلمة الديمقراطية، ولا منهج واحد لتطبيقها، ولا فهم واحد لنوع ارتباطها بكثير من الكلمات السياسية الرائجة، من مثل الشورى والحرية والفردانية والعلمانية والرأسمالية إلخ... فإنه من الضروري أن يوجد نقاش عام في مجتمعات العرب يأخذ بعين الاعتبار، قبولاً أو رفضاً أو نقداً وتعديلاً، تراثهم التاريخي الاجتماعي والثقافي والسياسي، وواقعهم الوطني والقومي الحالي، وعلى الأخص تجاربهم المريرة منذ بدء استقلالهم الوطني.

 وحتى يدرك شباب الأمة، وعلى الأخص من القابضين على الجمر وحاملي مسؤولية الالتزام الوطني والقومي، مقدار تعقُّد الموضوع، دعنا نحاول مراجعة التعريفات التي أعطيت لكلمة الديمقراطية عبر التاريخ. لقد بدأت كتركيبة كلامية فلسفية، بمعنى حكم الجماهير، من قبل بعض فلاسفة اليونان. ولكن أفلاطون رفضها في الحال، إذ اعتبر أن ذلك التعريف سيعني حكم الفقراء والجهلة للمتعلمين وقادة المعرفة. وتبعه الفيلسوف أرسطو، فرأى أنها يجب أن تعني الحكم الصالح، حيث تحكم أقلية، ولكن برضى الأكثرية. وهكذا، ومن البداية، أدخلت أرستقراطية حكم الأقلية في نظام حكم، قصد به أن يكون حكم الأكثرية لشؤون حياتها العامة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الديمقراطية تعني كل شيء لكل الناس، وذلك حسب تعريفها ككلمة بمختلف اللغات البشرية. ولذلك فليس بمستغرب أن تلحق بالديمقراطية عبر القرن العشرين صفات تقود إلى طرح شعارات ديمقراطية الرئاسة، أو الديمقراطية الأساسية، أو الديمقراطية الموجهة، أو الديمقراطية العضوية، أو الديمقراطية الانتقائية، أو الديمقراطية الجديدة، أو الديمقراطية الشعبية. ولا يتسع المجال لذكر أسماء وظروف وتعريفات البلدان التي طرحت تلك الشعارات في كل أنحاء العالم، ومنها بعض بلاد العرب، سواء أكانت بنوايا صادقة أم بنوايا انتهازية غوغائية.

 وحتى تزداد الصورة تعقيداً، طَرح كُتّابٌ وقادة سياسيون تعريفات وتوصيفات لا حصر لها ولا عد: «حكم الأغلبية»، «رضى الأغلبية»، «سلطة الإرادة العامة»، «الحكم الدستوري». وأثار البعض المخاوف بشأن طغيان وديكتاتورية الأغلبية أو الغوغاء. واشترط البعض حق التصويت لمن أنهوا التعليم الثانوي كحدٍّ أدنى. وأصرَّ البعض على أنه لا ديمقراطية حقيقية بوجود حكومة كبيرة. وخوفاً من جمودها، شدد البعض على أن الديمقراطية ليست عقيدة أو نظرية فلسفية، وإنما هي منهاج تنظيمي للقوانين ولمؤسسات المجتمع من أجل السلام الأهلي. ولم ينس البعض موضوع العقد الاجتماعي الشهير فيما بين الناس وسلطة الحكم.

 وفي المدة الأخيرة، وبسبب إعراض الكثيرين عن المشاركة في الانتخابات، اقترح البعض أن تكون المشاركة في الانتخابات إجبارية بالقانون، حتى لا تنقلب الديمقراطية إلى حكم بإرادة أقلية مهتمة وبقبول من أكثرية غير مهتمة.

 وفي بلاد العرب، أقحم البعض موضوعَي طاعة ولي الأمر والشورى، المختلف حول فهمها وتفسيرهما عبر تاريخ العرب كله، في قلب المناقشات بشأن الديمقراطية، لينتهي الأمر بانقسامات حادة حول هذا الموضوع.

 لنتذكر أننا اقتصرنا على الحديث عن تعريفات وفهم الديمقراطية على مستوى مختلف البلدان والثقافات والأنظمة السياسية. وذلك من أجل إبراز التطبيقات غير المتماثلة والتي لها تأثيرات هائلة على ممارسة الديمقراطية في الواقع الإنساني. ولا نحتاج للتأكيد أننا لا نقصد من إبراز تعقيدات المشهد، القول بأدني شك أو تردد بعدم أهمية الانتقال إلى النظام الديمقراطي، أو الإيحاء بتأجيل ذلك الانتقال. إذ لا يوجد حلُّ لإخراج العرب من تخلفهم التاريخي ما لم يتضمن الديمقراطية كجزء أساسي من مكوناته.

وهذا ينقلنا في الحال إلى ما طرحه البعض من مفكري وكُتّاب العرب حول تشابك وتفاعل الموضوع الديمقراطي مع النسيج الاجتماعي والتركيب السياسي وثوابت الثقافة وسلوكيات الفرد في أرض العرب. وهو ما سيكون موضوعاً لمقال مستقبلي آخر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"