صور الإرهاب المشوّهة في العالم

23:54 مساء
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تعيدني الأحداث الأفقية والصور المؤلمة في مواضيع الإرهاب المتنقل المتعدد الجنسيات والأصول الذي يحط في الأمكنة كلها، إلى الجذور التي افترضناها قد سحبت من تربتها حتى يباسها تحت شموس الحضارة الإنسانية المستحيلة، فإذا بها سمة العصر السوداء المحددة السحنات والعقيدة. كان محفوظاً عن ظهر قلب لدى المفكرين وكبار الكتاب المقيمين في التاريخ، أن العنف السياسي غالباً ما يصل أو يظهر موشحاً أو متدثراً بالرداء الديني، وذلك منذ فجر التاريخ وليس مع الإرهابيين المتأسلمين، مع أن هذه الظاهرة الجديدة تستثير الدهشة والسخرية وقرف المسلمين بالطبع.

لماذا؟ لأن الديني مقدس أساساً، وجامع، فلا سبيل للتوفيق المستحيل بين الإرهابي والمقدس. إن الإرهاب المعاصر  مسنوداً إلى استراتيجيات الإعلام المفتوح  جعل العالم مفتوحاً على مشهديات الأعمال الإرهابية الوحشية التي تتجاوز بظواهرها العقل البشري إلى حدود انهيارات المؤسسات، وإرباك الدول، وتشتيت المجتمعات المتنوعة، بما يتجاوز أو يتناقض مع طبيعة الحضارات ومظاهرها المترفة أوالفقيرة التي يعيشها أبناء القرن الحادي والعشرين.

عندما تطفو السياسة على سطح الدين يفقد كثيراً من جوهره، ويبين الوجه المظلم للأديان لا في نصوصها؛ بل كما يفهمها أو يحاول البشر فهمها، وليس أي نوع من البشر، الذين يتسلحون بتكفير الآخرين سواء أكانوا من دينهم ومللهم أم من خارجها، وينغرزون  جهالة  في الأساليب الوحشية الإرهابية، بما يشوه الدين والتبشير بالقيم واستقطاب الناس والرأي العام. هكذا تحول الاستقطاب الإعلامي محصوراً وملهوفاً في التنافس على إظهار الصور البشعة الممعنة في القتل والتخريب، والتفجير والإجرام الذي يملأ الأزمنة والأمكنة، عبر إعلام الشاشات المتنوعة الوظائف والأبعاد. صحيح أن ما أكتبه الآن، يأتي في ظلال ما حصل ويحصل في فرنسا والنمسا أخيراً، لكن المواقف الرسمية المشدودة جعلتني أعزف عن كل ما يحصل في العالم، يستغرق في أقاصي تاريخ اعتماد الدين وتشويهه لحجة التغيير المدهشة منذ الآشوريين الذين رددوا خمسة آلاف سنة قبل الحروب، ملاحم الكهنة السومريين القدماء الذين كانوا ينافسون الملوك على تأمين ولاء الشعب لهم. كان الدين هو الكتف الممتد عبر التاريخ الذي تتكئ عليه الحروب، وتبرر الكثير من الأفعال الدموية والوحشية والإرهابية التي تفرضها الحروب والنزاعات. 

وتعتبر الجماعة المعروفة باسم «السيكارين» أول وأشرس منظمة إرهابية في تاريخ الإرهاب، والسيكاريون تسمية كانت تطلق على الخناجر الرومانية التي تسمى «السيكا»، وقد اشتهرت بمذابح تاريخية سرية في وجه الرومان. أخذ السيكاريون على عاتقهم تطهير «أورشليم» من علمانية الرومان مستخدمين العنف الهائل ليس ضد الرومان وحسب؛ بل ضد المعتدلين هناك أيضاً. وللقارئ ألا يقفز أيضاً فوق تاريخ الإرهاب في العصور المسيحية الأولى، وصولاً إلى القرن الحادي عشر الذي انهمك فيه الغرب بالإعداد للحملات الصليبية، إلى مظاهر عنف ديني وفوضى إرهابية عرفتها المجتمعات الأوروبية.

صحيح أن للإرهاب جذور ومظاهر ذات طابع فكري وفلسفي وسياسي يرتبط بمفاهيم السلطة، كما أن العنف قد يتحول وسيلة مُثلى من وسائل الحكم تجلت نظرياً في شروح نيقولا ميكيافيللي في كتابه «الأمير». ونجده في فرنسا مع الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، إلى الحد الذي نادت به باريس آنذاك المشرعين بوضع الإرهاب على جدول الأعمال، ونجده في ألمانيا وروسيا القيصرية والولايات المتحدة، وصولاً إلى الإرهاب المعاصر الذي نعاينه ونعانيه في العراق وفلسطين ولبنان ومصر وسوريا، ومجمل البلدان. ما يعنيني أن مجمل تلك الجذور والنظريات الفكرية والمدارس الفلسفية والأفكار والديانات، لم تجعل من الإرهاب أيديولوجيا، كما هو حاصل اليوم.

ما يؤرقنا جميعاً هو بناء استراتيجيات تصحح انقلابات صور الإرهاب بين العرب والعالم، وتحديداً المسلمين، من دون أي معايير أو تفرقة أو تمييز، وكأن الكلام المتدفق صار دمغة الألسنة عن «الإرهاب الإسلامي» أو «الإرهاب المسلم» أو «المسلمين الإرهابيين»، لا فرق فيه  في عقل الغرب  بين عربي وعربي أو بين مسلم وآخر: كلهم أبناء إرهاب. 

الإرهاب طبعاً غير مبرر لا دينياً ولا أخلاقياً ولا قانونياً، ينطوي على صراع بين نقيضين أو نقائض وقد يصبح ظاهرة «صراعية» متشابكة العناصر تتمدد في التاريخ، ولها أدواتها الكثيرة، لكنها تتمحور حول محور الخوف من الآخر وتخويفه، وصولاً إلى حد الفتك غير المنظم الذي يتجاوز بعنفه قوانين الغرائز الحيوانية عند ممارسة أساليب الفتك الجماعي والتكفير والإلغاء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"