أوجه التطرف المتعددة

22:56 مساء
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

التطرّف، داء أصبحنا جميعاً في متناوله، ولَم يعد أي إنسان بمنأى عن أن يكون أحد ضحاياه، من الوهم أن نتخيل أن له وجهاً واحداً فقط، فالتطرف الذي يقود إلى العنف والإرهاب والقتل والترويع هو الذي يتصدر المشهد عالمياً، ويشغل وسائل الإعلام، ولكنه نتاج طبيعي لأشكال مختلفة من انعزالية تنتشر على الكوكب، وقد تفاجئك وتكون أنت ضحيتها أينما كنت وفي أي وقت ومن دون سابق إنذار. 

 الكارثة أن معظم من يتخذون التطرّف نهجاً، يتخذون مواقفهم من دون بحث أو علم، إنما هم جاهزون للشحن ممن يحركونهم كالدمى، ولحمل السلاح وارتكاب الجرائم من دون فهم حقيقي لدوافع أفعالهم ولا لعواقبها. 

 الكراهية، هي الطريق إلى التطرّف والإرهاب، والكراهية لا تنتشر في العالم بخطاب ديني منغلق على ذاته ويتاجر باسم الله فقط، ولكنها تنتشر أيضاً بفعل خطاب سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يتنمر على الآخر وينال من قيمه ويسخر من موروثه ويستهزئ بمعتقده، وبدلاً من أن يكون الآخر أكثر انفتاحاً وإدراكاً ووعياً من صاحب الخطاب المنغلق ليرد عليه بالحجة والمنطق، يأتي بما لا يختلف عنه انغلاقاً، وقد يرد بسلاح العاجز عن الحوار مع الآخر وكشف عوراته الفكرية، وغالباً ما يقدم هذا «المستهزئ» الفرصة لبعض الجهات كي تصطاد في الماء العكر، وترسل من يزيد الطين بلّة، ويكون القتل هو الرد القاطع، ثم تكبر كرة الكراهية ليجنح التفكير نحو إلغاء الآخر. 

 ما حدث في فرنسا لا يخرج عن هذا الإطار، ويبدو أن مجلة «شارلي إيبدو» كلما أصابها الإفلاس الإعلامي وانصرف عنها القراء، تلجأ إلى التجاوز والتهكم على سيد الخلق وخاتم المرسلين سيدنا محمد، وبعد أن وجدت العالم كله يتعاطف معها بعد المذبحة الإرهابية التي تعرضت لها في ٢٠١٤، والتي تقدمها رؤساء وزعماء مسلمون ومسيحيون رفضاً للإرهاب، وتنديداً بما يتخذه الإرهابيون وسيلة للرد على رسومها المسيئة، توهمت أن عودتها لإعادة نشر الرسوم ستجلب لها تعاطف العالم ثانية وتتصدر المشهد وتستعيد قراءها، ولكن ما فعلته هذه المرة لم يسفر إلّا عن سلسلة من الحوادث الإرهابية والمتطرفة، بدأت بسلوك عنصري من مدرس عرض الرسوم على تلاميذه، ولا نعلم هدفه من ذلك؛ ليأتي الرد عليه بذبحه من جانب شخص مصاب بانغلاق العقل وعمى القلب.

 كل ما حدث منذ انطلاق الشرارة الأولى لهذه الأزمة هو تطرف ولا يقود إلا إلى المهالك التي لا يزال يتابع العالم فصولها، ولا ندري أين أو كيف ستنتهي، والسبب هو تكريس كل ما يشعل نار الفتنة بين بني البشر، ولا شك أن قطاعاً كبيراً من الشعب الفرنسي الذي حمل لواء نشر العلم ومحاربة الجهل لا يقبل سلوك المجلة المفلسة، ولا المسلمون يقبلون قتل المدرّس ولا غيره من ضحايا جرائم ارتكبها الإرهابيون؛ وجميعنا ندرك أن الحرية عندما تتجاوز حدودها لتنال من الآخر لا تكون سوى تجاوز واعتداء، ولا يمكن لعالم يجرم التنمر في الشارع أو المدرسة أو البيت أن يقبل السخرية أو النيل من رسول كريم بعثه الله رحمة للعالمين. 

 التطرف لن يقود عالمنا إلا إلى الهاوية، وهو سلوك تعاني منه البشرية في كل مكان، ولو تخلت عن كل ما يشيع الكراهية، واندمج المهاجرون في المجتمعات التي اختاروا العيش فيها واحترم الناس قيم الآخرين ومعتقداتهم وهم يمارسون حريتهم، لانقلب حال كوكبنا الذي يتسع لنا جميعاً، ولكن شريطة أن يستوعب بعضنا بعضاً، ويتسع أفقنا لنترك لأولادنا وأحفادنا كوكباً يمكنهم العيش فيه.

قبل عامين التقى رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس مع فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وأصدرا من أبوظبي وثيقة الأخوة الإنسانية، ولو تبنّى زعماء السياسة ورجال الديانات والإعلاميون بنود الوثيقة وسعوا لنشرها بين الناس، لاختلفت ملامح عالمنا، ولصار أكثر سلاماً وتسامحاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"