الإمارات.. منظومة قيم

22:55 مساء
قراءة 3 دقائق

د. ناجي صادق شراب

لقد أدرك المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، منذ البداية، أن تأسيس الدولة ونجاحها لا يتوقف على البنية المادية فقط، وأن الإنسان ليس مجرد حاجات استهلاكية، وإنما لا تكتمل إنسانيته إلا بترسيخ منظومة من القيم، وهذه القيم كما فهمها المؤسس، ليست مستوردة وإنما نابعة ومتجذرة في تاريخ وأرض المنطقة، فهناك القيم القبلية من تعاون وتكافل ورفض الظلم، والقيم المترسخة من الدين الإسلامي مثل التسامح والإنسانية والسلام والأخوة الواحدة، ونبذ العنف ومدّ يد العون، وجاءت منظومة القيم كأحد أهم الدعامات والركائز التي تقوم عليها دولة الإمارات، وهي التي تبعث تدفق الدم في شرايين الدولة.

واقترنت عملية بناء منظومة القيم مع عملية الاستثمار في الإنسان، في مجالات التعليم والثقافة والتربية والتنشئة بكل وسائلها وأدواتها. وفي هذا السياق، تضمن دستور الدولة تأكيد هذه القيم التاريخية والدينية والإنسانية، وعكست مناهج التعليم هذه المنظومة. فالتعليم ليس معلومة وتلقيناً، بقدر ما هو قيمة عليا هدفها الإنسان البنّاء والفاعل الإيجابي المنفتح على ثقافته وثقافة غيره. 

هذه السياسة هي التي تبنتها قيادة الدولة واستمرت على نهجها، وعملت على التوسع فيها، وبناء كل المؤسسات الضرورية لنجاحها، ولم تتوقف عند حدود الدولة؛ بل تعدتها لتصبح سياسة عابرة للحدود تقدم النموذج والرسالة التي تحملها. فعرفت الدولة بمقاربتها للسلام والتعايش الإنساني، وسياسة الخيرية التي لا تقف عند حدود معينة، ولا تميز بين دولة وأخرى، ولا بين شعب وآخر أو مذهب وآخر، فالمعيار هنا هو الإنسانية الواحدة. ولعل أهم ما في منظومة القيم هو أن المنطلق في سلوك الدولة لا يكون بمعايير التوسع والقوة والسيطرة والهيمنة؛ بل بمعايير الإنسانية الشاملة. وتتفاوت الدول في تبني هذه القيم، وهذا يتوقف على فلسفة الدولة ورؤية قيادتها.

واليوم، فإن دولة الإمارات تقدم نموذجاً فريداً ورائداً في تبني منظومة قيم تجعل منها نموذجاً فريداً يمكن للدول الأخرى أن تسير على نهجه. وهذا النموذج هو الذي يقف اليوم وراء مكانة الدولة عالمياً. ومن مظاهره، الاعتراف بالجواز الإماراتي كجواز عالمي، ويعزى ذلك لما قدمته الدولة من مساعدات ومبادرات إنسانية عالمية.

كان يمكن لدولة الإمارات بثروتها أن تعيش منكفئة على ذاتها، وهذا نقيض القيم الأصيلة للدولة، فعملت وخصصت ثروتها لتقديم المساعدات للدول والشعوب الفقيرة، وللمناطق التي تتعرض للنكبات الطبيعية، وحتى مناطق النزاع في العالم. قامت سياسة الدولة على الوساطات الإنسانية والمساهمة في حل النزاعات الدولية. ولعل جائحة كورونا عبرت بصدق عن هذا السلوك  بما قدمته الدولة على الرغم من أنها مثل غيرها من الدول، تواجه هذا الوباء  بتقديم مئات الأطنان من المساعدات الطبية والغدائية للعديد من دول العالم الثالث، وكان نصيب الدول العربية واضحاً. 

ومنظومة القيم كل متكامل، بمعنى أنه لا تمكن الانتقائية في القيم، فمنظومة القيم تتوالد ذاتياً، وتشكل في النهاية وعاء حضارياً شاملاً. فالتسامح لا يكتمل إلا بالتعايش السلمي. وفي هذا السياق، يمكن فهم مقاربة الإمارات للسلام، الذي به تكتمل منظومة القيم، وتُستأصل شأفة العنف والكراهية وعدم القبول. وتجسيداً لهذا المفهوم، تبنت الدولة ما يعرف بالبيت «الإبراهيمي» الذي يرمز للتوحيد، وما يحمله أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من توحيد لكل الرسالات التي ستأتي من بعده. ووثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها إمام الأزهر وبابا الفاتيكان على أرض أبوظبي، جاءت رداً على نظريات صراع الحضارات التي روج لها صامويل هنتنجتون والتي تتناقض مع الرسالات السماوية. 

ماذا قدمت الإمارات وماذا فعلت؟ أسهمت في محاربة الفقر وشلل الأطفال، وتقدم نسبة كبيرة من ناتجها القومي للمساعدات الإنسانية. ولا تتوقف سياسات الإمارات عند هذا الحد؛ بل تبادر لدعم المنظمات الدولية ذات الطابع الإنساني. واليوم تكتمل هذه المنظومة بمقاربة الإمارات للسلام الذي يهدف إلى إعادة بناء المنطقة على أساس من الأمن والاستقرار والتنمية لكل شعوبها، والعمل على استكمال بناء السلام الشامل بقيام الدولة الفلسطينية، وبهذه المقاربة تكتمل منظومة القيم التي تؤمن بها الإمارات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"