تغيير المنكر باليد واحد من مظاهر التطرف السيئة التي وقع فيها بعض الشباب.. فتحت زعم إشاعة المعروف بين الناس، تبنى البعض فكرة مقاومة المنكر باليد، واستخدام القوة لفرض المعروف كما يريدونه.. وقد نتج عن هذا التصرف التعدي على حرمات الناس، والتنفير من أساليب الدعوة إلى المعروف، وتجاوز سلطات ولي الأمر.
هذا السلوك غير مقبول في ميزان الشرع الحنيف، فقد تترتب عليه فتنة واسعة وشقاق بين المؤمنين، وهذا ما يقوله الدكتور محمد شامة - أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر - ويضيف: سمعنا عن شاب يريد منع التدخين بالقوة، وآخر يريد منع سفور الفتيات بالقوة، وثالث يرغب في تشكيل فرق لدفع الناس نحو المعروف والأخذ على أيديهم عند وقوع المنكر، وربما لقيام بعض هؤلاء بتطبيق الحدود والعقوبات على المخالفين.
الشريعة الإسلامية نظمت فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل لا تتحقق به الفوضى وبطريقة تساهم في بناء المجتمع ونهضته في الفكر والسلوك والعمران، فالأمر والنهي عمل شرعي، محكوم بضوابط الشرع وأحكامه، وليس خاضعاً للهوى والمفاسد. وعندما يقول القرآن الكريم: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون»، فإنه يسد منافذ الفوضى والتطرف التي وقع فيها البعض.
فالآية توكل هذا الأمر لأمة، أي جماعة، من المؤمنين، هدفهم الدعوة وليس الإجبار، والدعوة إلى الخير وليس إلى إثارة الشرور والتنازع، وهو ما سوف يترتب عليه الفلاح للداعي وللمدعو وللمجتمع كله.
تجنب الفتنة
إن الدعوة مشروطة بتعيين نفر من الناس لهذه الفضيلة، كما هي مرتبطة بشيء مهم جداً، وهو ألا يترتب على النهي عن المنكر منكر آخر أشد منه، فلا يجوز شرعاً الإقدام على مقاومة منكر بشكل يترتب عليه فتنة أكبر، وهذا المعنى واضح في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روته السيدة عائشة عندما قال: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم»، فالرسول خشي أن تحدث فتنة لو قام بنقض أجزاء من الكعبة.
ومن أسوأ ما يقع فيه أهل التطرف في هذا المجال، أن البعض يختار الحلال والحرام على هواه، وقد يعتقد بحرمة الشيء وهو في الأصل ليس بحرام.
ولهذا قرر العلماء أنه لا بد أن يكون هذا الحرام المستحق للإنكار ثابت الحرمة وليس محل شك أو خلاف بين العلماء أو المجتهدين؛ إذ ليس من المعقول شرعاً أن يتوسع بعض المتطرفين في الشبهة كما يقول القانونيون، أو يهاجموا بعض صور الاجتهاد والخلاف، فهذا مما لا يقره الشرع.
الستر وجهاد النفس
ويتوقف الدكتور محمد شامة أمام مبدأ التغيير باليد، حيث يشير إلى عدد من المبادئ الشرعية في هذا، ويقول: أول هذه المبادئ، أن الإسلام يشدد على حقيقة تربوية مهمة، وهي أن التغيير لا بد أن يبدأ بالإيمان والتربية ومجاهدة النفس. فجهاد النفس هو أنجح درجات التغيير عند الفرد وعند الجماعة، وهذا ما أثبته الواقع الإنساني، وما قرره النص الشرعي، يقول الحق سبحانه: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين»، ويقول: «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها». وفي الحديث الشريف: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل»، وفي القرآن الكريم: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
المبدأ الثاني في التغيير أن الشريعة الإسلامية تجعل الأصل هو «الستر» على صاحب كل معصية، وفي الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم». ومع الستر ينبغي أن تكون النصيحة بالحسنى والتقويم باللين والعفو، وليس بالفضح والتشهير.
المبدأ الثالث أنه لا بد عند التغيير، خاصة في ظروف المجتمع الحالية وتعقد مصالحه، أن ينظم أمر الدعوة إلى المعروف أو النهي عن المنكر، أي لا بد أن يعين القائم بهذا من الحاكم أو من ينيبه، وقد وصف الفكر الإسلامي هذا الشخص بالمحتسب، وقال بعض العلماء: المحتسب هو المأذون له من الحاكم بتغيير المنكر.
الخطيئة الكبرى
امتداداً لهذه المبادئ، يوضح الدكتور رشدي شحاتة - أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة حلوان - ما يعتبره الخطيئة الكبرى التي وقع فيها البعض عند الحديث عن تغيير المنكر.
يوضح: «لقد تجاوز البعض جُلَّ سبل التربية والإصلاح وراح يستخدم «اليد»، أو القوة التي قد تكون آخر وسائل التغيير المطلوبة، وبهذا تجاوز هذا البعض سلطات ولي الأمر، وحمل نفسه دوراً ليس مطلوباً منه ولا يقتدر عليه».
والإسلام رتب وسائل الإصلاح على نحو رائع كما ورد في مجمل نصوصه وممارساته الشرعية، وكما وضح في الحديث النبوي المعروف «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
والحديث يقاوم الخلل الفكري كما هو واضح. فدرجة التغيير العملي باليد أو باتخاذ القرار لا بد أن تكون لصاحب السلطة فلا يجوز أن يمارسها آحاد الناس حتى لا تكون فتنة بين الناس والمجتمعات، والحاكم هنا يتحدث بمنطق أبي بكر يوم تولى الخلافة فخطب في الناس: «أيها الناس، القوي فيكم، ضعيف عندي، حتى آخذ منه الحق. والضعيف فيكم، قوي عندي حتى آخذ له الحق».
وبعد التغيير باليد ومعه، يأتي التغيير باللسان، أي بالقول والدعوة والقانون والإعلام والنصح والإرشاد، وهو باب واسع للإصلاح والبناء.
كما أن التغيير بالقلب قد يكون من أكثر مستويات التغيير عند الأفراد ومعهم وعند المجتمع ومعه. فإعمال الضمير وعزوف الناس عن فاعل المنكر وإشعاره بالغربة، قد يكون أقسى عليه من حد السيف، وفي قصة الثلاثة الذين خلفوا مثال واضح على ذلك حتى قال عنهم القرآن: «حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه».
أخطاء بالجملة
وينبه الدكتور رشدي إلى جملة من الأخطاء التي يقع فيها بعض الذين يسيئون إلى فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما يتحدثون فيها أو يمارسونها بعيداً عن الفهم الصحيح لطبيعة الإنسان ومكوناته الاجتماعية، وطبيعة الشريعة ومراتب الأحكام فيها، وأولويات المجتمع واحتياجاته.
فبعض أهل التطرف لا يدركون أنهم بتنفيرهم للناس يكونون عوناً لهم على الوقوع في المعصية، أو لا يفهمون سنة التدرج النفسي عند التعامل مع الناس وصعوبة الإقلاع عن المعاصي المتوارثة، أو أن الخطأ الإنساني وارد عند بني البشر، وهو سنة من سنن الله في كونه.
الشريعة الإسلامية تقرر أن الخطأ قرين الإنسان، وأن البشر يستحيل أن يكونوا ملائكة من دون منكرات، والرسول يقرر هذا المعنى فيقول: كلكم خطاؤون.
بل للعلماء في هذا لفتات رائعة، عندما وقفوا أمام قوله تعالى في سورة فاطر: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله». فالله جعل الأصناف الثلاثة، وهم الظالم والمقتصد والسابق، في الأمة المصطفاة، فيخطئ من يحاول أن يجعل الناس من دون منكرات. والشريعة عددت مستويات الحكم الشرعي ومراتبه، فهناك الحلال والحرام، وهناك المباح والمنكر، وهناك الواجب والسنة، وهكذا، ثم يسر الله للناس عندما قال في كتابه: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها». ويقول: «فاتقوا الله ما استطعتم» ويقول: «وما جعل عليكم في الدين من حرج».
واجب الفقهاء
وواجب المتطرفين إذن - كما يضيف الدكتور رشدي أن يراعوا أنهم لا يعيشون وحدهم، ولا يجوز أن يتعالوا على المجتمع الذي يعيشون فيه، كما لا يجوز أن يسيئوا بتصرفاتهم إلى هذه الفضيلة وربما الفريضة الرائعة التي جعلها الله من أبرز خصائص أمة التوحيد والدعوة والحضارة. وواجبهم أيضاً أن يعودوا إلى الفقهاء عندما يفعلون شيئاً مرتبطاً كأصل الدعوة وغايات الشريعة، وأن يدركوا أن خدمة الإسلام يجب أن تكون في دائرة الولاية ولا يترتب على هذه الخدمة ضرر آخر، فلسنا أصحاب ثقافة «الغاية تبرر الوسيلة» كما قال بعض فلاسفة الغرب،؛ بل غاياتنا النبيلة لا يجوز أن تكون إلا بوسائل نبيلة. وليقم كل واحد بمسؤولياته، وفي حدود استطاعته، وليتذكر أن ما هو خارج حدوده ليس مسؤولاً عنه.