التخبط اللبناني في أوحال الحواس

23:42 مساء
قراءة 3 دقائق

الدكتور نسيم الخوري

كان يمكن التغاضي، وهضم المستويات المتدنّية في ظاهرة تواصل معظم السياسيين والحزبيين، وأتباعهم في لبنان، لكن أن يتصوّر هؤلاء كانّهم وحدهم سكّان لبنان لا تعنيهم سوى سلطاتهم، فإنّ الظاهرة تشدّنا إلى القول إننا نتخبّط في أوحال الحواس، وفي الوعورة المظلمة الشائكة. هذه كارثة، لأنّ الحواس ملازمة لغرائز الكائنات غير العاقلة. والظاهرة شائعة في الإعلام، كما في العلاقات العائلية، والاجتماعية، والمتاجر، والأسواق، والساحات، والانتحارات المرعبة اليوميّة لقادة السيّارات، إناثاً قبل الذكور. والظاهرة مكسوة بالعنف اللفظي والجسديّ، والغرائز الفائرة، بدلاً من الرويّة والتعقّل، كأنها الانحطاط العام المخيف نحو قاع لا قرار فيه.

 وتبدو شراسة الحواس كوسائط شعبية يُعاد إحياؤها في التعبير، نتائج طبيعية لانفجارات المرفأ، والأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية، واللامبالاة الرسمية حيال العوز، والجوع، وفجائع الكورونا، والتباعد الاجتماعي، والكمامات التي شوّهت التواصل، وعزّزت الارتماء في أحضان الموت، لكن ليس إلى الحدّ الذي يصبح فيه التواصل حاجة عدائية غريبة عمياء يتمّ إشباعها، بلا ضوابط، فيقع السلوك في الفجاجة محكوماً بالغرائز تفصح عنها المخالب، والأنياب الجارحة، والاعتداءات، والمحاكمات، والتوقيفات، والاعتداءات المحصّنة بالمناصب ورجال الأحزاب والطوائف، أوبالأمن والقضاء.

 لا عذر لمسؤول لا يطيق سماع كلمة حادة من متسوّل يتوسّل كسرة خبز، أو دواء لطفله ليؤجّل موته. لا ذنب لطالب «أعدمته» دولته في الغربة، بعدما طردته جامعته لأنّه لم يسدّد قسطه، والمصارف اللبنانية تحتجز أموال أهله والمودعين في لبنان. ها هم طلابنا يستعطون فوق أرصفة العواصم رغيفاً، أو سيجارة. نعم. هذا هو الحال المشذّب لمن لا حواس خمس لديه. ولو شئت سوق النماذج اليومية المشابهة لملأت المساحة المحجوزة لي هنا، مضروبة بمئة، وأكثر.

 في المقابل، لا يعقل، بالمعنى الأكاديمي، أن نعمّم صفة ثبوت الغرائز على المخلوقات كلِّها التي أصابها التطور سلباً، أو إيجاباً.

 لماذا؟ تخبرنا العلوم الحديثة في التواصل، بأن القردة، مثلاً، تتّصل غرائزيّاً عبر 15 صرخة ثابتة مختلفة مصحوبة بالإشارات، لكنّها ارتفعت إلى 20 بزيادة 5 صرخات أقوى بعدما تم وضعها في الأقفاص في جنائن الحيوانات. وأتذكّر نظرية داروين في النشوء والارتقاء، لا لتبرير ما أعالجه، بل للتفسير. وفي المقابل، انحصر قاموس اتّصالات الدجاج في 10 أصوات انخفضت إلى 7 بعدما حصرت في الأقفاص المخنوقة.

 وتتواصل النحلات العاملات غرائزياً في 8 رقصات بأجنحتها فتحدث أصواتاً، أو طنيناً يفسّر بُعدَي المسافة، والاتجاه، نحو الزهور المكتشَفة لامتصاص رحيقها. وتتحدّد هذه المسافات، بين 100 متر، و6 كلم، ترسمها انحناءات النحلة بزوايا تتشكّل من ظلال جناحَيها تحت أشعة الشمس أمام باب القفير. وقد لوحظ، بعد تغذية النحل بالسكّر المذاب خلخلة الغريزة إلى درجة تأرجح عدد الرقصات بين 4 و6 رقصات، ما ولّد حقلاً دراسيّاً يهتمّ بأثر التقنيّات الحديثة في تهديم الغرائز الحيوانيّة، وتحوّلاتها.

 أين تقع الحريّة في ملاعب الغريزة والعقل؟

 يعتبر الاتّصال البشري سلسلة من حركات تسبق اللغة، لتحدّد في ما بعد تطوّر الأفراد والجماهير وردود أفعالها عن طريق الانفعالات البيولوجيّة التي «تبدأ بتحسّس الجنين مثلاً لأصوات أمّه قبل نضج قشرة دماغه»، وحيث تبرز بعد الولادة سلسلة أخرى ممتدة من حالات التعبير اللغويّة والرموز الاصطلاحيّة والحركات القابلة للترتيب والتهذيب، وبناء الشخصيّة. يندرج هذا الطرح في اعتبارنا لتنظيم الاستجابات وتهذيب المشاعر وقوننة الميول والرموز الأساسية الضروريّة من أجل الفهم والتكيّف والتعبير عن الذات لغويّاً، أو جسديّاً. يُضاف إلى هذه الفكرة في فهم الانفعالية كحيّز اتصالي، اكتشاف ما يعرف علمياً بالChronaxie وتعني الوحدة الزمنية التي تُقاس بها انفعالية كل عضو من الأنسجة الحيّة البشريّة.

 ما يعنيني من هذا، ملكة التعبير عن الذات العاقلة المسؤولة، إذ يفترض أن تبرز اللغة الفاعلية العالية وتتمّ تربيتها من نقطة البداية أو اللغة الانفعالية أساساً فتختلط معها لتؤلّف لغة الكلام الفجائيّة التي تحمل ملكة التعبير عن الحاجات، فالذات والفكر وتلوّنه وتطوّره نُظم تتحقق لغوياً في صور ومؤسسات وأحاديث ومواقف وخطب وأفكار تبدو بصفتها وسائل لا للاحتفاظ بالنفس وحسب، بل لنهضة الناس، والمجتمعات، والأوطان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"