روسيا تعود بقوة إلى جنوب القوقاز

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.غسان العزي

في القرن المنصرم اتخذ جوزيف ستالين قراراً أُحادياً بمنح إقليم ناجورنو كاراباخ حكماً ذاتياً في حضن جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية. وغداة سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991 سارع هذا الإقليم، الذي يقطنه اليوم 150ألف نسمة 99% منهم من الأرمن المسيحيين على مساحة 4400 كلم2، إلى إعلان الاستقلال والذي لم يعترف به أحد في العالم، حتى أرمينيا.

وهكذا انفتح على مصراعيه صراع تسبب بمقتل عشرات الآلاف من الأذريين والأرمن قبل أن تتشكل «جماعة مينسك»، وتفرض وقفاً لإطلاق النار في عام 1994.هدفت هذه الجماعة المؤلفة من 15 دولة برئاسة ثلاثية (روسيا والولايات المتحدة وفرنسا) إلى قيادة مفاوضات تقود إلى حل دائم، والسيطرة على التوتر في هذه المنطقة. ومنذ ذلك الوقت يعود التوتر والمعارك بين الطرفين الأرميني والأذري ثم يتم الاتفاق على وقف لإطلاق النار يبقى عرضة للخرق.

في 27 سبتمبر/أيلول المنصرم عادت المعارك للاحتدام، وبوتيرة مكثفة هذه المرة ولم تنفع اتفاقات وقف إطلاق النار ال3 في وقف الحرب التي وقع ضحيتها آلاف القتلى والجرحى ووأدت إلى تشريد الآلاف؛ لكن في التاسع من الشهر الجاري تم التوصل إلى اتفاق يشكل انعطافاً في هذه الأزمة لمصلحة روسيا على وجه التحديد.

فبعد ساعات قليلة على الإعلان عن هذ الاتفاق؛ دخلت قوات روسية إلى أراضي الإقليم، وبذلك باتت موسكو موجودة عسكرياً في ثلاث دول من القوقاز الجنوبي (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان). هذا الاتفاق بين الرئيسين الروسي بوتين والأذري إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان يكرّس دور روسيا كحكم في هذا الصراع، ولا يشير البتة إلى مجموعة مينسك؛ العراب التقليدي للمفاوضات.

ويبقى الغموض محيطاً بدور أنقرة ومكاسبها من الاتفاق؛ بعد أن قدمت دعماً علنياً لأذربيجان. فهي مرتاحة للنصر العسكري الأذري؛ لكنها لم تستحوذ على مقعد في المفاوضات التي قادت إلى الاتفاق، ولم تحصل سوى على إعلان من الرئيس علييف، بأنها سوف تشارك في قوات حفظ السلام. وهذا لا يعد إنجازاً حقيقياً؛ نظراً لانخراطها المباشر بالنزاع عبر المرتزقة وطائرات الدرون والأسلحة والدعم السياسي وغيره وتكبد الانتقادات العالمية لها بأنها تقوم باستفزازات في أذربيجان بعد سوريا وليبيا وقبرص وتسعى لإحياء السلطنة العثمانية.

لقد حقق علييف نصراً عسكرياً واضحاً فحصل على ما عجزت عنه باكو في ربع قرن من المفاوضات، وبذلك يبدو في الداخل زعيماً قوياً بمعزل عن المشاكل السياسية والاقتصادية المتراكمة. أما النجاح الدبلوماسي الأكثر وضوحاً فهو لبوتين الذي عمل بموجب مبدأ يقول إنه ينبغي أن يكون الوضع في ساحة القتال جلياً؛ كي تغدو الدبلوماسية فاعلة. فاذا كان لابد من أن تخسر أرمينيا الحرب، فليكن شريطة ألا تدخل القوات الأذرية إلى أراضي أرمينيا المرتبط معها بمعاهدة دفاعية؛ إذ توجد قاعدتان عسكريتان لموسكو، وهو بهذا الاتفاق يحافظ على علاقاته المميزة مع باكو التي تشتري من موسكو 68% من أسلحتها. كما أنه أبعد تركيا الذي يعيق تدخلها الدور الروسي كوسيط بين الجمهوريتين السوفييتيتين السابقتين.

بالطبع الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو رئيس الوزراء الأرميني باشينيان الذي لم يسامحه بوتين على انفتاحه المفرط حيال الغرب بذريعة مكافحة الفساد والذي بات ممقوتاً من قبل جزء كبير من مواطنيه الذين هجموا على المؤسسات الرسمية ونادوا بإسقاط «الخونة» الذين استسلموا لأذربيجان، وليس مستبعداً أن يسقط الرجل لمصلحة حلفاء موسكو القدامى في السلطة.

لكن على الرغم من كل شيء فهذه العودة الروسية القوية الى القوقاز الجنوبي على حساب الهزيمة الأرمينية لن تكون من دون أكلاف سياسية على الأقل. صحيح أن باكو لم تتمكن من تحقيق هدفها بالسيطرة الكاملة على إقليم ناجورنو كاراباخ لكن هذا الأخير بات محاطاً من كل الجهات بأراض أذرية ولا يربطه مع أرمينيا سوى ممر لاتشين الضيق نسبياً والذي تسيطر عليه القوات الروسية.

 وإذا كان صحيحاً أن موسكو احترمت التزاماتها في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي؛ لكنها في الواقع تركت حليفها الأرميني المقرب لمصيره، واستمرت في بيع الأسلحة لعدوه الأذري، وهذا ما سيدعو دولاً أخرى للتفكير في الأمر. وبالطريقة نفسها برهنت موسكو أن صراعاً مجمداً قد يشتعل مجدداً، ويمكن إخماده بالقوة المسلحة من دون التوصل إلى حل سياسي، وهذه سابقة ملفتة. ففي كل الصراعات المجمدة في المنطقة تقف روسيا في موقع المدافع عن ستاتيكو؛ ساهمت هي نفسها في خلقه، وقد ينفجر في وجهها في أية لحظة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"