انفراط اليمين

23:25 مساء
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

لم تكد تمر أيام على إعلان فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية حتى بدأ عقد اليمين السياسي، والمتطرف منه والشعبوي على وجه الخصوص، بالانفراط في أنحاء العالم، لكن الانفراط كان واضحاً أكثر في أوروبا التي بدأت تستشعر تراجع الموجة الداعمة لليمين المتطرف والشعبوي فيها والقادم عبر الأطلسي قبل الانتخابات الرئاسية. بدأ ذلك مع إدانة ستيف بانون، مستشار ترامب في بداية فترة رئاسته، في قضية جنائية في الولايات المتحدة. وكان بانون نذر نفسه بعد تركه البيت الأبيض لدعم أمثاله في أوروبا من بولندا وإيطاليا إلى فرنسا وبريطانيا.

وعلى الرغم من أن اليمين المتطرف يتنامى في أوروبا منذ الثمانينات من القرن الماضي، فإن رئاسة دونالد ترامب لأمريكا أعطته دفعة قوة استثنائية. وعلى مدى العقدين الأخيرين من القرن العشرين تطور اليمين المتشدد واليسار المتشدد كرد فعل على اتجاه اليمين التقليدي واليسار التقليدي نحو الوسط، بما جعل الفوارق بينهما تكاد تنعدم. وللتوازن تطرف جناح من اليمين نحو الشعبوية وتطرف جناح من اليسار نحو الفوضى الراديكالية.

ولأن اليسار بشكل عام، وأكثر في أوروبا، فقد كثيراً من جاذبيته للجماهير وتضعضعت قوته مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي في العالم، فقد كان صعود اليمين الهامشي المتشدد أقوى وأكثر رسوخاً. وأكل ذلك بوضوح من أحزاب اليمين السياسي التقليدية في دول أوروبا الرئيسية، من إيطاليا وألمانيا إلى فرنسا وبريطانيا. ومع فوز ترامب بخطابه الشعبوي في 2016، اشتد عود اليمين المتطرف الأوروبي ووجد وقوداً لنموه في موجات الهجرة من مناطق الحروب والاضطرابات في دول العالم الثالث.

كما أدى تراجع ثقة الجماهير بأوروبا وغيرها، في السياسة التقليدية وحتى الديمقراطية التمثيلية، إلى فقدان تيارات الوسط (يميناً ويساراً) لتأثيرها في المجال العام، وشجع ذلك جماعات الهامش السياسي المناوئة للمؤسسة التقليدية على تعزيز خطابها الشعبوي والفوضوي. وكان واضحاً أن اليمين يكسب أكثر من اليسار برفعه شعارات التخويف من سياسات الليبراليين، وتماس خطابه مع مشاعر جماهيرية انعزالية بشكل عام.

لكن الدفعة الأكبر لتقوية اليمين المتطرف كانت أيام حكم ترامب على مدى أربع سنوات، وإن كانت لم تستكمل تأثيرها في ترسيخ هذا التيار حول العالم، وهو ما كان مرشحاً للحدوث في حال استمر ترامب لفترة رئاسية ثانية. والمثير أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا الشهر شهدت انقلاباً غير مسبوق تمثل في الزيادة الهائلة لنسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات، وهو ما يفسره البعض ببداية استعادة الثقة الجماهيرية في الديمقراطية التمثيلية.

سارع اليمن الحاكم في بريطانيا ممثلاً في حزب المحافظين، إلى تعديل بوصلته، وخلال الأيام الماضية شهد مقر الحكومة البريطانية التخلص من العناصر الشعبوية المناوئة للمؤسسة. وخلال الأيام الماضية استقال مدير اتصالات الحكومة لي كين، وكبير مستشاري رئيس الوزراء دومينيك كمنجز، وكلاهما من صقور البريكست ويشبهون ستيف بانون، لكن على الطريقة البريطانية. والحقيقة أن اليمين البريطاني المتطرف الذي يمثله نايجل فاراج، صديق بانون، لم يحقق شعبية كبيرة  وإن أضر بقاعدة اليمين التقليدي الذي يمثله رئيس الوزراء بوريس جونسون  وإنما انفراط عقد اليمين الأوضح في أوروبا سيكون من شرقها، خاصة بولندا والمجر مثلاً. فإدارة ترامب تقربت بشدة من البلدين، وغيرهما، على الرغم من نبذ الأوروبيين لهما. كما تحمس ترامب للبريكست في بريطانيا، وصادق رئيس بولندا أندريه دودا، ورئيس المجر فيكتور أوربان؛ لأنهما بالأساس عنصرا «مشاكسة» ضمن الاتحاد الأوروبي. 

صحيح أن دودا وأوربان يشبهان ترامب في كثير من مواقفهما، لكن ترامب المعادي لأوروبا التقليدية (على طريقة دونالد رامسفيلد وزير دفاع جورج بوش الابن) كان يريد أيضاً النيل من ألمانيا وفرنسا بدعمه لبولندا والمجر.

والآن، يجد دودا وأوربان وأمثالهما في أوروبا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه مع ذهاب ترامب؛ بل وتدهور اليمين المتطرف الأمريكي عموماً. وإذا كان جونسون في لندن يمكنه التعامل مع إدارة بايدن الديمقراطية، فإن دودا وأوربان لن يستطيعا. 

والأهم أن توجه «تخريب» الاتحاد الأوروبي من داخله تلقى ضربة قوية خاصة مع تدهور وضع دودا في بولندا. ولا ننسى أن بولندا كانت شعلة فتيل انهيار المعسكر الشرقي لعالم القطبية الثنائية، وهي تقريباً شرارة أي تغيير جذري يريد الأمريكيون إحداثه في أوروبا ومحيطها الأوسع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"