الديمقراطية الهشة

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

لقد صدّعوا رؤوسنا بديمقراطيّة «الربيع العربي» التي ستجعل المواطن العربي المأزوم صاحب السلطة الفعلية في أوطانه. وسنة بعد سنة تتكشّف الأوجه المظلمة من «ربيع الخراب»، فحتّى الدّول التي قيل إنها نجحت في تأسيس تجربة ديمقراطية ناجحة، ها هي تكشف عن ديمقراطية زائفة أساسها المال الأجنبي.

فتقرير محكمة المحاسبات التونسية حول انتخابات 2019، أكّد أنها انتخابات فيها بعض الشوائب، وأنّ المال الفاسد الداخلي، والخارجي، تدخل فيها بصفة مباشرة. إذ قالت الناطقة باسم محكمة المحاسبات فضيلة القرقوري، في مؤتمر صحفي، إن حزب حركة النهضة قد تعاقد مع شركة الدعاية والتخطيط BCW منذ شهر سبتمبر/ أيلول 2014 إلى غاية 2018 ثم تم إبرام عقد تكميلي من 16 يوليو/ تموز 2019 إلى 17 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وتم دفع مبلغ مالي قدره 187.215 دولاراً أمريكياً. وأضافت أنّ المترشحة عن «عيش تونسي»، ألفة التراس، تعاقدت مع شركة أجنبية «أمريكا تو أفريكا كنسلتينج»، خلال الفترة الممتدة بين 7 مايو/ أيار 2019 إلى شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بمقابل مالي قدره 15 ألف دولار أمريكي شهرياً. وأضافت أن المرشح للانتخابات الرئاسية، نبيل القروي تعاقد مع شركة ضغط أجنبية بقيمة 2.85 مليون دينار، وتم تحويل جزء من قيمة العقد عبر حساب بنكي غير مصرح به، وهو حساب زوجته. أمّا المترشح لانتخابات الرئاسة حاتم بولبيار، (مرشح مغمور ينتمي لحركة النهضة)، فقد أنفق مليون دينار، (300 ألف دولار)، في حملته الانتخابية، لكنّه قدّم كشوفات مخالفة تضمنت إنفاق صفر مليم على الحملة. أما المترشح يوسف الشاهد، فقد ثبت استغلاله لمنصبه كرئيس حكومة في ذلك الوقت، واستعمل تجهيزات الدولة في حملته الانتخابية. كما كشف التقرير أن خمسة أحزاب فقط، من جملة أكثر من 200 حزب قدمت تقاريرها المالية، ما يعني وجود مشكلات حقيقية تخصّ مصادر تمويل الحياة السياسية. وهذه المعطيات في يد القضاء، أما الانطباع السائد فهو أن الانتخابات الماضية كانت غير شفافة، لأنّ المال الفاسد لا ينتج إلاّ ديمقراطية هزيلة. ولن تستطيع تصريحات الأحزاب، ولا الشخصيات المتصدّرة للمشهد أن تعيد لها طهارتها. ومحكمة المحاسبات تقول إنّه ثابت لديها، وبالأدلة وجود تمويلات خارجية، استغلتها الأطراف المعنية في حملاتها الانتخابية، وساعدتها تلك الأموال على الحصول على نتائج ربما لم يكن بإمكانها تحقيقها في غياب تلك الأموال. ومنذ أشهر عدة، ظهرت تقارير على وجود تدخلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الحملات الانتخابية سنة 2019، وكان لهذه التدخلات تأثير قوي في توجيه الناخبين. ومن هذا المنطلق يمكننا التأكيد على أنّ بعض الأطراف السياسية قد عملت على إفساد الحياة السياسية، بالتمويل الفاسد الذي كثر الحديث عنه منذ انتخابات 2011، في واقع الأمر. والملاحظ أن هذه الأطراف، تشكل الآن تحالفات سياسية لتقود المرحلة المقبلة، وهي تسعى لتعديل وزاري يمكنها من بسط نفوذها على الحكومة الهشة.

ما العمل الآن؟ نبيل بفون رئيس هيئة الانتخابات «المستقلّة»، سعى إلى قطع الطريق بالقول إنّه لم يعد هناك ما نفعله الآن. بمعنى أنّه على التونسيين القبول بهذه الخروق، وتجاوزها ضمن إطار سياسة «بوس خوك» النشطة جداً في السنوات العشر الأخيرة. أما شفيق صرصار أستاذ القانون الدستوري والرئيس السابق لهيئة الانتخابات، الذي استقال منها من دون أن يكشف أسباب استقالته، فقال إنّ القانون الانتخابي الحالي ينص على سحب المقاعد في البرلمان في حالة ثبوت التمويل الأجنبي لأي حزب، أو قائمة. ويضيف أن العقوبات يمكن أن تكون عقوبات تجاه الأحزاب المتورطة وفق المرسوم 87 المنظم للأحزاب، والذي يمنع التمويل الأجنبي، أو كذلك تتبع وتحميل المسؤولية الجزائية لمن يتحمل مسؤولية أي جريمة. فأيّهما نصدّق الآن؟ وهل توجد سلطة يمكنها فعلياً، سحب المقاعد من الأحزاب المخالفة؟ وهل يقدر القضاء على الحسم في قضيّة بهذا الحجم؟ لو فعلها القضاء، سنقطع فعلاً شوطاً مهمّاً في الاتجاه نحو إرساء قيم علوية القانون، وإرساء قيم الجمهورية الثانية. ولكن نحن على يقين أنّ المتحكّمين في المشهد لن يسمحوا ببعثرة الأوراق من جديد، لأنّ الحرص على الفوز بالانتخابات غايته الأولى مواصلة التحصّن من «بلاوي» أخرى لم يُكشف عنها حتى الآن. ولذلك فهم لن يسمحوا بسيادة القانون.

أما الدّيمقراطية اللّيبية التي تجري هندستها في تونس أيضاً، فيبدو أنّها لن تكون سوى صورة أخرى عن الديمقراطية الزائفة التي يتحكّم في خيوطها أصحاب النفوذ المدعومين من قوى خارجية تريد فرض هيمنتها على ليبيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"