مع تطور سلطات ووظائف الدولة المعاصرة، برزت فكرة الديمقراطية باعتبارها من وسائل إدارة شؤون الحكم وتنظيم الدولة في العصر الحديث، لكن هذه الفكرة «الديمقراطية» ولدت حساسية غريبة تجاه بعض الشباب المتطرف من دون أن يعرف معرفة صحيحة ومن دون أن يكون على وعي وفهم صحيح لتعاليم ومقاصد شريعته الإسلامية.
فالبعض رفضها من حيث المبدأ باعتبارها فكرة غريبة يريد الخصوم من خلالها أن يؤثروا في الشعوب المسلمة، والبعض الآخر تخوف من فكرة الانتخابات التي قد يستغلها الخصوم في رفض الأحكام الشرعية بحجة رأي الأغلبية.. والبعض الثالث رفض فكرة تصويت المرأة في الانتخابات العامة.
والحقيقة أن صور الديمقراطية الحديثة ليست مجرّمة ولا محرّمة في المطلق، ولكن بها جوانب رائعة، وبها جوانب يمكن توظيفها أفضل من توظيفها الحالي بما يحقق مصلحة الناس.
هذا ما يقوله الدكتور محمد الشحات الجندي، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر، وصاحب أكثر من دراسة علمية في هذا الموضوع، ويضيف: لا شك أن عملية إدارة شؤون الحكم صارت معقدة إلى حد بعيد، ولا شك أيضاً أن كل صور الحكم الحديثة هي وليدة اجتهادات الفكر الإنساني كله، وعلى رأسه الفكر الإسلامي بنصوصه الشرعية واجتهادات الفقهاء وتجارب الأمة المسلمة، وليس مقبولاً من حيث المبدأ أن يقال: إن مسألة الديمقراطية هي وليدة الغرب، فهذا ظلم للإنسانية قبل أن يكون تسطيحاً لظاهرة مجتمعية مهمة، وأيضاً ليس مقبولاً أن يرفض بعضنا مثل هذه التجارب الإنسانية لمجرد أنها موجودة في أوروبا أو غيرها، فالحكمة ضالة المؤمن وعليه أن يبحث عنها ومتى وجدها فهي حق له.
مصدر السلطة
ويتابع: ينبغي أن نعالج ذاتنا من مسألة رفض بعض المسائل بحجة أن غيرنا قد طبقها ويجب أن يكون همنا هو البحث عن كل ما هو مفيد، وتجنب كل ما هو ضار للمسلمين وللناس كافة.
ويتوقف الدكتور الجندي عند جزئية يثير حولها بعض المتطرفين جدلاً وهي مسألة أن الشعب أو الأمة مصدر السلطة السياسية.. فالرؤية المتطرفة تخشى أن يكون هذا المبدأ الديمقراطي ضد إيماننا نحن المسلمين بأن الحكم الإلهي هو مصدر السلطة والتشريع.
فكون الأمة مصدر سلطة إدارة الحكم يعني أن ولي الأمر عندما يمارس ولايته يكون ذلك بإرادة الناس واختيارهم، وهذا مبدأ «بيعي» في النظام الإسلامي فليس الحاكم عندنا نصف إله كما كان في بعض أنظمة الحكم الفرعوني، أو في العصور الوسطى في أوروبا، بل ولي الأمر في التجربة الإسلامية الواسعة يأتي باختيار الناس عن طريق البيعة سواء بيعة بعض النخب في المجتمع «ما في البرلمانات حديثاً» أو بيعة الشعب بالوسائل المتاحة، فالولي عندنا هو ولي بالوكالة عن الناس وخادم لمصالح الأمة، وهي التي تختار، وبيعات الرسول وبيعات الخلفاء ومبدأ الشورى والتفاصيل التي وضعها الفكر الإسلامي في مواصفات من يستشار وحدود الشورى والرقابة في جل شؤون المسلمين، من الحرب إلى السلم، ومن الأمور الاجتماعية إلى سياسة الرعية ومن الفتوى الشرعية إلى مجالات العدل والقضاء.. هذا وغيره يجعل مبدأ الأمة مصدر السلطة مبدأ شورياً، يدعو لخدمة الناس، ورد الأمر لأهل الاختصاص: «ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم».
الشرع والعقل والمصلحة
يضاف إلى هذا أن مسألة رضا الناس واختيارات الأمة لو وضعناها في البيئة المسلمة فسوف نضبط كثيراً من شطط الديمقراطية وغلو أصحابها ونُزيل التخوفات التي يتخوف منها بعضنا.
إن تربية الأمة على قيم الشورى الحاكمة لحركة المجتمع المسلم كله، من الحياة الزوجية «فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور» حتى علاقة ولي الأمر برعيته كما أمر القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وشاورهم في الأمر»، وكما صارت صفة للجماعة المؤمنة «وأمرهم شورى بينهم». وضبط اختيارات الناس بمصالح المجتمع العامة، وتعقل العلماء والحكماء مع النص الشرعي القاطع.
أقول إن هذا المثلث «المصلحة والشرع والعقل الجمعي» سوف نتجاوز به تجاوزات الديمقراطيات المعاصرة خاصة في الجانب الذي يعادي بسببه البعض هذه الديمقراطية، وهو الخوف من غلو الاعتماد على الأمة كمصدر للسلطة.
التصويت.. شهادة وتناصح
وهناك جزئية أخرى تسبب حساسية ضد صور الديمقراطيات المعاصرة وهي المتعلقة بعملية الاعتماد على أصوات الناس وآرائهم في صدور القرارات، ومشاركة المرأة على وجه الخصوص بالتصويت.
فبعض المتطرفين كما ترصد الدكتورة كوثر المسلماني أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر يرفضون عمليات التصويت تخوفاً من أن يصبح الحكم الشرعي محل تصويت، وبالتالي يمكن لأصوات الأغلبية أن تحل مثلاً بعض ما حرمه الله.
فهذا التخوف ليس له أساس من الواقع، لأن الأحكام الشرعية القاطعة ليست موضع تصويت من الناس، فكل من الحرمة والحل له قواعده الشرعية الثابتة في الفكر والممارسة والمجتمع المسلم ومجامعه الفقهية في ضوء قواعد الإسلام العامة.
أما مسألة مشاركة الناس في القضايا المتعلقة بإدارة شؤون الدولة، فهي مشاركة بالرأي، تعد من قبيل قاعدة اهتمام المسلم بالشأن العام كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، والمشاركة عندما يستدعي المواطن للقيام بها، هي تدخل في معنى إعطاء الشهادة، والقيام بواجب النصح والأمر بالمعروف وتأكيد وحدة المسلمين الذين هم كالجسد الواحد.
وفي الحديث: «الدين النصيحة» قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: «لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
مبادئ للنساء والرجال
أما رفض مشاركة المرأة في العمل العام بالتصويت أو غيره، كما تؤكد الدكتورة كوثر فهو تطرف في غير محله.
إن التكليف والمشاركة والتعلم والتناصح والمبايعة والدعوة هي مبادئ إسلامية قررها الشرع للنساء كما قررها واعترف بها للرجال. يقول الحق سبحانه: «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» ويقول: «والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر».
ومما له دلالة هنا : كما تشير د. كوثر- أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس ذات يوم: «أيها الناس» فسارعت أم المؤمنين «أم سلمة» إلى المجلس، فتعجب البعض، فقالت رضي الله عنها: «ألست من الناس»؟
وتتعدد الشواهد على هذا، وعلى فرض تحفظ بعض الدول على مبدأ «تصويت المرأة» إلا أننا يجب أن نفهم هذا في سياق حقيقتين: الأولى أنه موقف لظروف اجتماعية وليس لأسباب تتعلق بأحكام الشرع، والثانية أن هذا الموقف الاجتماعي لا يجوز أبداً أن يجعل بعضنا يرفض كل صور الممارسات الديمقراطية الحديثة.
وبالقدر الذي ندعو فيه بعض الشباب إلى التخلص من مثل هذه الأفكار المتطرفة، ندعو المجتمع المسلم بل المجتمع الإنساني كله إلى ألا يحول الديمقراطية إلى أداة للفرقة والشقاق والطغيان من القوي على الضعيف، حتى يحافظ الناس على تجاربهم الإنسانية التي اكتسبوها على مر العصور.