«جمر» وليد عثمان

22:57 مساء
قراءة 3 دقائق

 

أجمل الكتب تلك التي تسافر معك، بلا تأشيرة ولا جواز سفر ولا جنسية. فقط اسم الكاتب على الغلاف هو تأشيرة الدخول إلى مملكة القراءة، وأجمل الكتب تلك التي تجعل من القراءة حلقات زمانية ومكانية متداخلة تبدو عند نهاية قراءة الكتاب كأنها إسورة من الفضة. قرأت رواية «جمر» للصديق وليد عثمان زميلي في جريدتنا «الخليج» في جلستين اثنتين فقط، الأولى حوالي أربع ساعات، والثانية حوالي ثلاث ساعات. مرة ثانية حلقات زمانية ومكانية متداخلة. في الجلسة الأولى لم أترك الكتاب، وفي الجلسة الثانية لم تتركني مصر.
ها أنذا أقرأ عن ناس أعرفهم في رواية «جمر»، وإن لم أكن أعرفهم مباشرة، فعلى الأقل أعرف أشباههم جيداً في أمكنة في القاهرة أعرفها، وإن لم أكن أعرفها، فعلى الأكثر أعرف ما يشبهها ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من بلدان العالم، ففي كل مكان وزمان ثمة جمر، وفي كل مكان وزمان ثمة «السبع» و«هبّاش» و«فرح» و«وحيد» و«جمال أبو المجد» و«حسن نادر»، ولحم يحترق في مسرح مغلق، وحب في الهواء الطلق يخلّف جمراً وحفنة رماد.
لم يكتب وليد عثمان عن الحب في زمن كوليرا «الإخوان»، وجائحة الانتهازي والتاجر والدجّال والكذّاب في مكان بعينه فقط، وفي بيئة سياسية وإعلامية وصحفية وثقافية بعينها فقط، بل كتب أيضاً في العنوان الرئيسي الأكبر لحياة البشر وهو إنسانيتهم، وشفافية توترهم، وشعريتهم الآدمية، وغنائية حياتهم المفتوحة الأبواب.
أبواب بيوت الفلاحين في الريف المصري لا تغلق في وجه جار أو في وجه ضيف، والفلّاح، أو المرأة الفلّاحة في «الكَفْر» بفتح الكاف تمييزاً عن المعنى الآخر للكلمة، وفي الغيط، وفي حوش الدّار، وفي الدّار هي شاعرة بالفطرة. هكذا رأت أم وحيد أن الشمس ملأت الدنيا كناية عن الصحو الصباحي للكائنات وحتى للجماد والأشياء في قوس زراعي ريفي يعلّمك الحنان والكرم والحياء.
يكتب وليد عثمان قصة حب نصفها في القاهرة التي ستنبعث منها رائحة لحم بشري ضعيف، ونصفها الآخر في الريف الذي تنبعث منه رائحة خبز التنّور، ورائحة الزرع والحجر والإنسان في أقصى درجات نبله وشجاعته وتماهيه العفوي الصادق مع ذاته، ومع ذوات الآخرين من دون ذلك الحيّز النفسي الذي يتحرك فيه شخص مثل «السبع» أو مثل «الهبّاش»، ويستطيع القارئ بالقليل من تأمل هذا الاسم «الهبّاش» أن يحيله إلى أكثر من معنى وأكثر من دلالة: و«الهبش» هو الأكل بشراهة في لسان بعض الفلّاحين.
حكاية حب «مخبوز» على جمر. حب معلن عند فرح وحسن، وحب مخبّأ عند والد فرح. حب لم يكتمل عند يوسف ومنى، قبل اكتماله عند وحيد ومنى، وحب غامض ينمو بلطف وينطفئ بلطف أسرع في الحجرة النائية من قلب وحيد وقلب فرح. وبين حب وآخر، خيوط من يوميات القاهرة ومقاهيها ومطاعمها وجرائدها وميادينها المفتوحة للمشي والبوح والحلم أيضاً.
هذا هو «جمر» وليد عثمان. «جمر» يُقرأ في جلستين بلا توقف في المرة الأولى وتوقف في المرة الثانية. استدراج ذكي إلى مصائر الشخصيات ومآلاتها الجسدية والنفسية والحياتية. دمج هادئ ومرتّب بين العامية المصرية، والعربية الفصحى، معرفة بالنفس البشرية العاشقة والمحبة والحالمة والانتهازية والمشوّشة من الداخل والخارج. كتابة باردة منعشة على نار هادئة، أو جمر هادئ.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"