تفجير اللغة أم الرأس؟

00:41 صباحا
قراءة دقيقتين


 


حكى الكاتب السوري سعيد حورانية ( 1929- 1994) في مقالٍ له، يمكن وصفه بالساخر، أن أحد أصدقائه الذي أصدر مجلة أدبية جديدة، في حينه، طلب رأيه في القصص القصيرة التي حواها عددها الأول، فأجابه بأنها كلها رديئة، لما حوته من «فذلكات ليست تجريباً للإيصال، وإنما هي تقليد لبعض الصرعات»، مضيفاً أن «قراءة مثل هذه الأشياء تصيب القارئ بالمغص».
لم يرق هذا لصديقه صاحب المجلة المأخوذ بمفاهيم شاعت حينها حول تفجير اللغة وتجاوز السائد وما إلى ذلك، وقال له: «لقد ماتت الواقعية يا أخي، ألا تحس بقطار التاريخ المسرع؟ ملمحاً إلى أن حورانية ما زال أسير مفاهيم «بالية» ولى زمنها حول الأدب ودوره.
ردّ حورانية على الفور: «ليس هذا قطار التاريخ، بل إنه قطار يعمل بالفحم فيملأ الدنيا دخاناً تبدده الرياح بعد قليل».
بصرف النظر عن قسوة حورانية في سجاله مع صاحبه، فإنه طرح قضية مهمة لا تتقادم، في الأدب والفكر، هي الانجذاب الذي يبلغ حدّ الهوس بكل موضة أدبية تهب علينا بعض ريحها من الغرب، عبر الترجمات إلى العربية، الرديئة في الكثير منها، ما يضعف صدقية تمثلّها من المأخوذين بها، لأنهم لم يقرأوها في مصدرها، وأتتهم منفصلة عن السياقات التي نشأت فيها في الآداب الأخرى.
الانغلاق على الذات نقيصة وليس فضيلة، لكن علينا بالمقابل أن نحدد مفهوم الانفتاح الذي نريده على الثقافات والآداب الأخرى وغاياته، هل برغبة متابعة الجديد في هذه الثقافات وتمثلّه معرفياً وإبداعياً، أم اجتراره وتقليده بغبغائياً، دون بذل أي جهد في «تجليسه» في بيئتنا، كي ننتج أدباً أو فكرأً نابعاً من هذه البيئة، لا أن نكرر كتابة الآخرين، ونحن نعلم أن المسافات بين الكتابة الأصل والكتابة الصدى شاسعة.
يسخر حورانية من مفردات ترد في بعض النصوص من قبيل: «الشارع يترنح»، «المقهى يتثاءب»، «الرصيف يوجه نظرة استهزاء»، «الأفق يصفع العين»، «الواجهات تدلدل ألسنتها»، حتى لتحسب أن الكون بأجمعه قد تعاطف مع بطل القصة أو الرواية الحزين، معتبراً مثل هذه العبارات أو الأوصاف زوائد تثقل النص ولا تغنيه بشيء.
ويستشهد بعبارة قالها مكسيم جوركي لأنطون تشيخوف، في رسالة أرسلها له، مفادها: «لا أتحدث إليك لأني أحبك فحسب، بل لأني عليم أنك رجل تكفيه كلمة واحدة كي ينشئ صورة ويؤلف جملاً ويكتب قصة رائعة تنبش أعماق الحياة».
ويخلص حورانية إلى أن «تفجير اللغة أو الرأس في قصة قصيرة كثير على القارئ».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"