أوروبا والاستقلال الاستراتيجي

00:24 صباحا
قراءة دقيقتين

يونس السيد

أربع سنوات من حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانت كافية لوضع القارة الأوروبية العجوز في متاهة البحث عن ذاتها وعن هويتها واستقلاليتها التي اكتشفت فجأة أنها مفقودة على الرغم من تاريخها العريق والموغل في القدم قياساً بالولايات المتحدة حديثة العهد نسبياً والتي لم يمض على إنشائها سوى بضع مئات من السنين.

لم تكن الحالة الأوروبية مختلفة كثيراً عما خلّفته تداعيات النهج الترامبي الذي رفع شعار «أمريكا أولاً» في معظم أنحاء العالم؛ لكنه شكل ما يشبه الصدمة لأوروبا التي كانت تغفو على كتف العلاقات الدافئة والتحالف الاستراتيجي والمصالح المشتركة مع الولايات المتحدة، لتصحو فجأة على وقع المطالبة بتدفيعها ثمن الحماية الأمريكية لأمنها، وعلى وقع التهديد بالانسحابات المتعددة، سواء من حلف «الناتو» أو الهيئات والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وهي فضاءات مهمة للأوروبيين؛ لإثبات وجودهم وتحركاتهم في الساحة الدولية، ناهيك عن التلويح بالانسحاب من بؤر الصراع الملتهبة في العالم، وترك الأوروبيين وحدهم في مواجهتها. هذا الانكفاء الأمريكي ولّد شعوراً لدى الأوروبيين بأن الولايات المتحدة في طريقها للتخلي عن زعامتها العالمية ودورها القيادي لمصلحة خصومها التقليديين والقوى الصاعدة في العالم، وهو ما يضعف الموقف الأوروبي على وجه العموم.

في سنوات حكم ترامب، اكتشف الأوروبيون أنهم كغيرهم قد يتعرضون للعقوبات الأمريكية، وأن الشراكة الاقتصادية والأمنية والعسكرية، تخضع لحسابات الولايات المتحدة وحدها، وأن دورهم لا يتعدى تلبية الاحتياجات الأمريكية، والانخراط في خطط واشنطن التجارية والأمنية من دون أي نقاش. وفي النهاية اكتشف الأوروبيون أنهم ليسوا بمنأى عن خطط واشنطن لتفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه، كما ظهر جلياً في تشجيع بريطانيا على الخروج وإغرائها باتفاقات تجارية وأمنية بديلة؛ بهدف إضعاف أوروبا وإبقائها في دائرة التبعية المطلقة للولايات المتحدة.

 على وقع كل هذه العوامل وغيرها من التفاصيل الكثيرة، استفاق الأوروبيون للبحث عن هويتهم الضائعة، واستقلاليتهم المفقودة، وبدأت الأصوات تتعالى، خصوصاً في فرنسا وألمانيا؛ لشكيل قوة أوروبية موحدة أو «جيش أوروبي»؛ لاستعادة الهيبة الأوروبية؛ وتمكين القارة العجوز من الاعتماد على نفسها في حماية أمنها واستقرارها والدفاع عن شعوبها بغض النظر عما ستؤول إليه العلاقات مع الولايات المتحدة.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانا من السبّاقين في الدعوة لإعادة بناء «أوروبا قوية» بمعزل عن الولايات المتحدة، حتى أن ماكرون اعتبر أن إعادة بناء «أوروبا قوية» هو المسار الصحيح لخلق توازن في العلاقات يؤدي إلى تعاون مثمر ومفيد، ورأى أن «الولايات المتحدة لن تحترمنا كحلفاء إلا إذا كنا سياديين في دفاعنا الخاص»، وأن «تغيير الإدارة الأمريكية فرصة لمواصلة بناء استقلاليتنا بطريقة سلمية وهادئة كما تفعل الولايات المتحدة لنفسها وكما تفعل الصين لنفسها»، رافضاً فكرة وزيرة الدفاع الألمانية التي تطالب بإنهاء ما تعده «أوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي»، لأن الأوروبيين لن يتمكنوا من لعب دور أمريكا الحاسم كمزود للأمن، وقال: لحسن الحظ أن ميركل ليست من هذا الرأي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"