بصمة «الإيموجي»

01:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

هل تذكرون رواية «الحب في زمن الكوليرا»، لجارسيا ماركيز؟ بالطبع، لم تكن مجرد قصة حب، بل كانت في حقيقتها دراسة عن المشاعر الإنسانية في زمن التبدلات والظروف غير الطبيعية، فالمشاعر تتغير في طرق التعبير عنها، وفي درجات الإفصاح عن مكنوناتها، وإذا كان العالم قد عرف ينابيع محبة من الرسائل التقليدية، المتبادلة بين البشر في الماضي، فإن أنماطاً مختلفة سادت في طرق ووسائل التعبير عن المشاعر المختلفة من صداقة وأخوّة، وغير ذلك، فالخطابات الورقية التي كانت تحمل في متونها الأشواق والسؤال عن الأحوال، ظلت سائدة حتى لحظة ظهور الهاتف الذكي الذي أخذ فكرة الخطاب التقليدي المكتوب، ثم طوره، وهو التطور الذي ظل مع ثورة الاتصال، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة، التي رسمت للعلاقات أساليب وطرقاً جديدة مبتكرة.

لقد ظلت محبة الإنسان ومشاعره الإيجابية لأخيه الإنسان متقدة، لكنها اتسمت في العصر الراهن بشيء من الجفاف، فقد تغيرت الأساليب والطرق، فبات الاتصال الشخصي عبر اللقاءات المباشرة شيئاً عزيزاً وصعباً، نتيجة لروح العصر الذي يتسم بالسرعة وسيادة الفردية، حيث يهيم الفرد وحيداً ومعزولاً، وفي تلك العزلة لجأ الكائن إلى التقارب عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء والمحبين، تلك التي عززت من غربته، حيث صار العالم الافتراضي بديلاً عن الواقعي، وعوض عن اللقاءات الحقيقية بالاتصال عبر غرف الدردشة، وهو ما دفع الشركات العاملة في الوسائط الإلكترونية، من أجل الربح، إلى تطوير أساليب الدردشة بحيث تأتي الانفعالات والمشاعر شبيهة بما يجري في الواقع واللقاءات الحقيقية، فكانت أن لجأت إلى فكرة «الإيموشنات»؛ أي الوجوه التي تحاكي الانفعالات النفسية والشعورية لدى الإنسان.

لقد حل «الإيموشن» أو «الإيموجي»؛ مكان الابتسامة، والغضب، والحيرة، وكل أشكال العواطف الإنسانية، محل التعبير الإنساني في اللقاءات المباشرة والعلاقات الاجتماعية، فما على المستخدم إلا أن يضغط على الوجه المحدد الذي يعبر عن الشعور المعين، ليأتي من الطرف الآخر عبر الدردشة، وجهاً يعبر عن ردة الفعل، وقد تفننت شركات التقنية في صناعة الوجوه المعبرة، التي صارت تباع عبر المتاجر الإلكترونية وتجد رواجاً كبيراً وسط الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي وسم العلاقات الإنسانية بالجفاف والجمود، وصار الإنسان ينفق وقتاً طويلاً في محاولات كيفية إثبات «صدق»، مشاعره وأمنياته عبر تلك الوجوه والتعبيرات البديلة، والتي باتت ثقافة من ثقافات التواصل الاجتماعي، حيث إن هنالك محاذير عديدة في كيفية توظيفها واستخدامها، فاستعمال الوجه أو العلامة بصورة خاطئة قد يقود إلى سوء فهم من الطرف الآخر.

نحن في الحقيقة نعيش في عصر ملغز وغامض وملتبس على مستوى العلاقات والمشاعر، حيث صارت تلك العلامات والرموز هي المفتاح الذي يفسر النفس البشرية على مستوى مشاعر الرضا والحب والكراهية، ولا نستطيع بطبيعة الحال أن نحكم على تلك العواطف بأنها ليست حقيقية أو زائفة لمجرد أنها تتم عبر وسائط افتراضية، ولكن الصحيح أن التعبير عنها قد اختلف، نسبة لظروف التباعد وانشغال الناس وراء كسب سبل العيش، حيث إن الإنسان هو مجموعة من المشاعر المختلفة، بالتالي فإن العالم الافتراضي لا يضيف عواطف جديدة بقدر أن التعبير عنها هو الذي يكتسب شكلاً جديداً.

غير أن هنالك فوائد عديدة لتلك الوسائط، لعل من أهمها أنها وسعت من دائرة المعارف والأصدقاء من بلدان مختلفة، ربما كان يصعب التعرف بهم، وهم يعلمون جيداً أن تلك المراسلات الافتراضية لن تكون بديلاً للتعرف المباشر وعن قرب، لذلك فإن كثيراً من الأصدقاء الذين جمعتهم وسائل التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة، سعوا إلى كسر جمود العلاقة عبر تواصل حقيقي في أرض الواقع، وهذا يثبت أن الإنسان بالفعل كائن اجتماعي، وأن اللقاء عبر تلك الوسائط لا يغني عن الحقيقي الواقعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"