معمل تجارب العولمة

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

هل اختفت الإيديولوجيا؟، أو بمعنى آخر هل انتهى دورها في تحليل السياسات على مستوى الدول والعالم؟، سؤال طرحه البعض بصيغ مختلفة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ورافق ذلك إعلان البعض عن نهاية النخبة وموت الأفكار الكبرى.

إن الحديث الآن في أغلبه عندما يتطرق إلى راهن ومستقبل البشر من قبل الكثير من المنظّرين والباحثين، يتميز بتلك اللهجة التي تؤكد ذلك التراجع الواضح للعامل الفكري الذي كان يميز هذه السياسة عن تلك، في مقابل صعود قضايا تتعلق بالديمغرافيا والمناخ والصحة والثورة التكنولوجية في أبعادها كافة، وهي مفردات وعناصر أصبحت تحتل واجهة الأخبار وتأتي في مقدمة الأولويات في القراءات المختلفة، وتتم مناقشتها من منطلق يحاول أن يتجمل وراء لافتات إنسانية براقة، فجميع البشر في خندق واحد في مواجهة تلك القضايا، وتراجعت إلى حد كبير مصطلحات أخرى كانت متوهجة ومهيمنة ذات يوم، مثل اليمين واليسار، والشمال والجنوب..الخ.

هناك كتب ومقالات كثيرة تتناول المسألة الديمغرافية، وترصد أعداد السكان وزيادتهم المنفلتة من عقالها خاصة خلال نصف القرن الماضي، وتطالب بمعدلات تنمية مرتفعة في البلدان الفقيرة تستوعب تلك الملايين التي تضاف إلى العالم كل يوم. يذهب المفكر الفرنسي ألبير جاكار في كتابه «الانفجار الديمغرافي»، إلى أن كوكب الأرض يستطيع استيعاب 30 مليار نسمة من فلاحي بنجلاديش، ولكنه يعجز عن استيعاب 6 مليارات إنسان على شاكلة سكان باريس، يلوثون البيئة كل يوم بسياراتهم وسلوكياتهم المختلفة، هنا تعيدنا ملاحظة جاكار إلى أطروحات خالصة ترتبط بالتطور اللامتكافئ بين البلدان المتقدمة والنامية، وإلى دور الرأسمالية وأدواتها فائقة الحداثة في تخريب البيئة.

أما إذا انتقلنا إلى الصحة، ولنأخذ «كورونا» كنموذج، سنعثر على الرؤية نفسها، فالعالم لا همّ له إلا متابعة أخبار الوباء واللقاح الفعّال الذي بإمكانه القضاء عليه، والخسائر الاقتصادية التي ترتبت على الإغلاق، ونادراً ما يتطرق هذا التقرير أو تلك التغطية إلى ملايين البشر الذين لا يجدون ماءً نظيفاً للشرب ولا يحصلون على أبسط احتياجاتهم الإنسانية، ولا يحلمون بلقاح ل«كورونا».

لقد حاولت العولمة إخفاء الإيديولوجيا بطرائق عدة، بداية من مقولات مثل صدام الحضارات، والصعود بالاختلافات الثقافية والعرقية لتحتل واجهة المشهد كبديل للصراع السياسي والاقتصادي، وليس نهاية بصناعة واقع تكنولوجي افتراضي يسعى إلى تغييب العقل، ومروراً بتصدير قضايا ذات عناوين إنسانية خلّابة، والملاحظة الأهم تتمثل في أن كل هذا حدث في حوالي ثلاثة عقود فقط، أي أن البشر كانوا في معمل تجارب عاشوا فيه تحولات كانت تتطلب عدة قرون في الماضي، ومن هنا خطورة المقبل والذي يتعلق بإرادة البشر وإعادة تقييمهم لكل تلك التجارب التي تستلب الوعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"