«المسألة الأمريكية» غير جاهزة لحل قريب

23:23 مساء
قراءة 3 دقائق

جميل مطر

قضيت نصيباً معتبراً من حياتي العملية أتابع بشغف تصرفات الولايات المتحدة. عشت سنوات عديدة أسجل توقعات تمس مستقبل دولنا ومجتمعاتنا العربية ضمن توقعات تمس مجمل سياسات ومصالح أمريكا الخارجية. الآن أعيش بعض الوقت أناقش مع متخصصين ومتخصصات مخضرمين ومخضرمات تحليلات ومعلومات تتعلق بمجموعة شواهد تلخص ما يصح أن نطلق عليه عبارة «المسألة الأمريكية». 

لا أقصد، من بعيد أو قريب، وجود صلة أو وجه شبه بين الحالة الراهنة للنظام الدولي المعاصر وحال النظام الدولي خلال أواخر القرن الثامن عشر وطوال سنوات القرن التاسع عشر، ولا بين حال الإمبراطورية العثمانية وقتها وحال الدولة الأعظم، وأقصد الولايات المتحدة الأمريكية، في ظروفها الراهنة. أكرر أنني لا أقصد أو ألمح بوجود صلة أو وجه شبه بين المسألتين، وإن كنت لا أنكر الضغط الشديد والملح من جانب تطورات الوضع الأمريكي وتصرفات المسؤولين عنه لنقر آسفين بأن هناك «مسألة أمريكية» وأن العالم بأسره يعاني من تفاقم بعض تداعياتها بخاصة الزيادة المطردة في الوعي لدى مختصين ومسؤولين بأن لا حل لهذه المسألة ينتظرونه قريباً.

لأغراض هذا المقال يجدر بنا عرض ما يعنيه لدينا مفهوم المسألة الأمريكية تحت ثلاثة عناوين. أول العناوين، المأزق الدستوري والديمقراطي، والمقصود به مجمل التطورات التي وقعت في الحياة السياسية الأمريكية وأوجزتها بوضوح شديد تصرفات غير قليلة من جانب الطبقة السياسية عبر السنوات الأخيرة. أغلب هذه التصرفات تجسد في شن حروب خارجية، وتعريض حقوق شعوب ودول أجنبية للانتهاك، وتجاوز المبادئ الحاكمة للنظام الديمقراطي الأمريكي. 

تحت العنوان الثاني، المأزق الحضاري، اجتمعت عدة مؤشرات أهمها التراجع المحسوس في مكانة الولايات المتحدة على الصعيد التربوي والتعليمي وعلى صعيد التقدم التكنولوجي بخاصة في مجال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. أنبه هنا وفي كتابات أخرى عديدة إلى أن ليس كل ما يقع تحت بند الانحدار الحضاري الأمريكي مطلقاً وإنما بعضه، إن لم يكن أكثره نسبياً أي بالمقارنة بما حققته جمهورية الصين الشعبية خلال صعودها الأسطوري.

ثالث العناوين يشير إلى المأزق الأمني. قبل سنوات غير كثيرة لم يكن أحد من الخبراء أو المراقبين الإعلاميين يجادل في أن التفوق الأمني الأمريكي مطلق وأن القوة الصلبة الأمريكية ماحقة. الآن تدور مناقشات جادة حول ما أصاب الفجوة التي كانت تفصل بين القوة الأمريكية وأقرب قوة أخرى. 

يصاحب الانحدار الأمريكي تغيرات تكاد تغطي كافة الصعد وفي معظم أقاليم العالم. عشنا مرحلة هامة تغيرت فيها أوضاع كثيرة في الشرق الأوسط، وهي مرحلة ممتدة إلى يومنا هذا. تابعنا مثلاً تغلغل التوسع الروسي وتعمق المصالح الصينية في الإقليم في حماية الولايات المتحدة. كانت أمريكا ولا تزال إلى حد ملموس الدولة الأجنبية الأقوى نفوذاً في الإقليم حتى وهي تنسحب سراً وعلناً. رأيناها تنسحب بعد أن تنسق مع روسيا أو غيرها مثل تركيا وإسرائيل لتضمن انسحاباً آمناً وعودة أيضاً آمنة في حال فشلت أو تغيرت خطط الانسحاب. جدير بالذكر أن ليست كل القطاعات الأمنية في الولايات المتحدة ظلت مجمعة على دعم هذا التوجه في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى أن عادت فنشطت ضغوط قوى داخلية منها إسرائيل. هنا استخدمت صفة الداخل لتنطبق على التطور الذي حدث في العلاقات الأمريكية  الإسرائيلية خلال ولاية دونالد ترامب في أمريكا وبعض ولاية بنيامين نتنياهو في إسرائيل. هكذا تحققت إرادة الطرفين على التعجيل بدعم إسرائيل في كل ما تريد في الشرق الأوسط قبل أن تتسع شقة الخلاف داخل الحركة الإنجيلية من ناحية ومن ناحية أخرى قبل استكمال أمريكا انسحاباتها من المنطقة. هكذا تتفادى إسرائيل احتمال أن تقف لها روسيا أو تركيا أو الصين في وقت لاحق ممانعة أو ساعية لنصيب لها في حصيلة ما صار يعرف بالصفقة.

لن أختلف مع خبيرة أمريكية في شؤون الشرق الأوسط علقت على التطورات الراهنة أنه لا بد أن إسرائيل وهي قارئة جيدة للواقع الأمريكي أدركت أن لا حلول قريباً لمشكلات أمريكا. نعم لن أختلف مع هذا الرأي بل وأضيف اعتقادي أن دولاً كثيرة، وليس فقط إسرائيل، تنتظرها في الشرق الأوسط على امتداد الشهور والسنوات القادمة أدوار جديدة لتؤدى وفراغات لتملأ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"