«ثقافة الإلغاء» في محاكم مواقع التواصل

23:33 مساء
قراءة 4 دقائق

عائشة عبد الله تريم

البشر مخلوقات غريبة تجتمع فيها كل الأشياء المتناقضة. الخير والشر، الحب والكراهية. تجدهم يخوضون الحروب لأجل تحقيق السلام، ويُلحقون أكبر أشكال الأذى بالآخرين تحت عنوان الحب. هذا التناقض فطري للغاية، ويتجلى هذا الاضطراب الهائل  في المشاعر  في سلوك لا يمكن تفسيره بتاتاً، إلى درجة أننا تقبّلناه على أنه ما يميزنا كبشر. الأرواح التي تبحر في العالم، دائماً ما تقترب جداً من ارتكاب الخطيئة، وفي بعض الأحيان ترتمي في أذرعها المغرية، وهذا يحدث لأن البشر بطبيعتهم متناقضون مع ذواتهم، وأنماطهم السلوكية خير دليل على ذلك.

لقد تعلمت المجتمعات المتحضرة الحكم على أفعال معينة ومعاقبة آخرين وفقاً لما يراه قانون الأرض مناسباً، وبهذا يلغي قدرة الناس على احتكار القانون، ومع ذلك نشهد تكرار حدوث ذلك في وقتنا الراهن. يتبنى الناس آلية تتحرك وفقها مجموعة من الأصوات التي تضخّمها وسائل التواصل الاجتماعي، لتشويه سمعة شخص يعتبرون أفعاله مسيئة. تحدث هذه الظاهرة في كثير من الأحيان بما يكفي لتسميتها «ثقافة الإلغاء»، وأخذت على عاتقها الغوص في المياه الموحلة، حيث لا يخرج منها أحد نظيفاً في النهاية.

تختلف على الأرجح، أسباب التركيز على شخص ما، قد يكون بعضها شرعياً، ولكن بعضها الآخر لا يبدو كذلك في الواقع، حيث تكون دائماً في أكثر المناطق رمادية، لكن عموماً، النهج واحد في حد ذاته. نجد كيف أن سيلاً من التغريدات اللاذعة والمشاركات والصور التي يبدو أنها لا نهاية لها، توجّه نحو الهدف حتى لا يظهر منه شيء سوى الخطيئة. ولا يهم ما إذا كان هذا الشخص قد سبق وأن قام بعمل جيد، أو أُثني عليه، أو كان جزءاً من شيء عظيم، فإن هذه المجموعة ترى البشاعة فقط. هذا الموضوع مثل العديد من الموضوعات الأخرى المتعلقة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ يوجّهنا نحو الفكرة الموقرة لحرية التعبير، ولكن مع ذلك إذا لم يكن الناس أحراراً تماماً في التصرف كما يرغبون، فإن العواقب تلعب دوراً كبيراً في قرار المرء بالتصرف، ثم لماذا يجب أن يكون التعبير مختلفاً؟ تؤذي التعليقات الافترائية شخصاً أو منظمة بالمستوى نفسه، فالكلمات حتى لو لم يتم إثباتها، يمكن أن تؤدي إلى فقدان السمعة، وهذا بدوره يعني القضاء على الوظائف والمستقبل والأحلام، وتسميم حياة مهنية أو عائلية أو اجتماعية.

لنفترض بعد ذلك أن الاتهامات صحيحة، وأن الشخص الذي يتعرض للهجوم قد أخطأ بالفعل وفقاً لقانون الغاب الخاص بوسائل التواصل الاجتماعي، لكن الحكم دائماً ما يكون إعداماً بغض النظر عن حجم الجريمة! هنا ماضي الهدف لا يهم، ومستقبله غير مهم أيضاً؛ لأن الحرب قد بدأت، وهذا النوع من الهجوم لا يترك شيئاً مخفياً ولا مكاناً محظوراً. لا يهم حتى متى تم ارتكاب هذه «الجريمة» في الماضي. 

في المحاكم، عادة يحصل المتهمون على بعض الخصوصية، حيث يتم الاحتفاظ بالأمور في السجلات ولا يطْلَعُ عليها إلا القضاة والمحامون، وللأسف لا يحدث شيء من هذا القبيل في محاكم «تويتر» و«فيسبوك» وبقية الأذرع الإعلامية الأخرى الخاصة بوسائل التواصل الاجتماعي. 

إن الخوض في هذا العالم هو عملية غير أخلاقية تحدث باسم العدالة بمساعدة سهولة الغوص في مياهه المظلمة، التي يبدو أنها تقود المرء بشكل أعمى، إلى استنتاجات غير عقلانية، لا يغذيها سوى الكراهية المدفوعة بالغضب.

لذلك تُرتكب الأخطاء بحق الشخص الواقع تحت الهجوم، وتقذف الكلمات عليه، وتكسر القواعد الثقافية السائدة، وكل شيء عادل، فقط من أجل إلغائه، ومحوه من وجه الأرض، وإبعاده إلى أقصى ما يمكن، ليعيش في عالم من الخزي والعار. إذا أردنا أن نقول إن هذا المعيار قد تم اعتماده من قبل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وإن هذه هي فكرتهم عن العدالة، فإن السؤال الموجّه إليهم هو: ما الذي يأتي بعد إنجاز مهمتك؟

في عالمنا الأرضي، نناقش فكرة إصلاح السجون وإعادة التأهيل، ومع ذلك، فإن «ثقافة الإلغاء» في عالم الإنترنت لا تترك مجالاً لمثل هذه الآمال. ماذا عن الطريق إلى إصلاح البشرية؟ وهناك يكمن لبّ الموضوع، هل تريد أن يتقدم الناس، وأن يتعلموا من أخطائهم التي صرخت بها من دون أية قيود من فوق الأسطح الافتراضية؟ أم إن الأمر كله كان مجرد هواية، أو حاجة أنانية لتشويه وقتل الأشخاص باسم الأفكار المزعومة التي تعتبرها حقائق؟ المفارقة الواضحة، هي أنه في ممارسة حريتهم للتعبير، يقومون بإسكات الآخرين.

الإنسانية غير معصومة، وكل فرد منا معرض لارتكاب الخطايا، لكن إذا لم نسمح بأن يكون هناك أمل في تحقيق إصلاح الذات، فلن يسعى أحد منا إلى فهم عيوبنا وبذل الجهد لتصحيح الضرر الذي أحدثته أفعالنا. إذا واصلنا طرد الناس، فسيأتي يوم لن يتبقى فيه أي شخص في الداخل، وسيجد أولئك الذين تم نفيهم أماكن أخرى تتقبّلهم، وقد تكون هذه الأماكن مظلمة ودبقة وتؤدي بهم إلى نهايات مؤسفة. 

إذا كانت الدوافع نبيلة حقاً، فعلينا أن نمضي بحذر ويجب أن تكون الوسائل مهمة، بقدر أهمية الغايات. دعونا نتقبّل الناس عند ارتكابهم أخطاء، وإذا لم نتمكن من مساعدتهم على التخلص منها، فلا نضع أنفسنا في موقع يلحق المزيد من الأذى بهم. إن الطريق إلى خلاص أو إصلاح البشرية معبّد بمخاطر ويجب على المتهم أن يسلكه في الظلام، ولكن إذا لم نضئ له الطريق، فلا أمل لأي منا في إيجاد طريقه للوصول إلى الطرف الآخر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"