الأبعاد الجيوسياسية للغة الإنجليزية

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تلعب اللغات دوراً حاسماً في رسم السياسات الدولية، وهي ليست فقط مقياساً رئيسياً لتحديد مدى قوة وانتشار حضارة ما على حساب حضارات أخرى، ولكنها تعكس مدى قوة دولة وتفوقها على غيرها، وهذا ما يجعل اللغات تمارس تأثيراً لافتاً في معادلة العلاقات الدولية، يتجاوز مجرد كونها أدوات للتواصل والتعبير. وهناك إجماع واسع بين السياسيين وصناع القرار، على أن اللغات الكبرى وفي طليعتها الإنجليزية، تضطلع بمهام اقتصادية وجيوسياسية بارزة، تعود إلى بداية انتشار الحملات الاستعمارية التي جعلت قسماً معتبراً من سكان العالم، يتكلمون لغات المستعمِر، وتطوّرت الأوضاع بعد ذلك مع انتشار العلوم وتقنيات التواصل، والمبادلات التجارية، لتُمكِّن الإنجليزية من تحقيق انتشار عالمي غير مسبوق.

وبالتالي، فإنه وخلافاً لما يعتقد كثيرون، فإن اللغة تمثل عنصراً مؤثراً في بناء العلاقات الدولية وفي إدارة الصراعات الجيوسياسية بين الدول القومية، وبين القوى العظمى في العالم، فإذا كانت الجيوسياسة تتحدد  كما يشير إلى ذلك جون ماري لوبروتون  بوصفها «تحليلاً لأشكال المنافسة بين القوى في بقعة جغرافية بعينها»، فإنه من الواضح أن اللغات تمثل الانعكاس المباشر لميزان القوة، خاصة أن من يتحدث لسان الأمومة يمتلك امتيازاً واضحاً مقارنة بمن يضطر إلى التعبير بلسان أجنبي.

وقد جاء الانتشار الواسع للغة الإنجليزية في العالم بعد صراع طويل في أوروبا مع اللغة الفرنسية التي ظلت تمثل لغة الثقافة والدبلوماسية لعقود طويلة من الزمن، قبل أن تحسِم الإنجليزية الصراع لصالحها داخل القارة العجوز وخارجها، بفضل تحوّلها إلى لغة الصناعة والعلم والاقتصاد، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية التي كرست تفوّق الدول الناطقة بالإنجليزية، مع تحوّل لندن ونيويورك إلى أهم مركزين عالميين للمال والأعمال؛ لذلك فإن الانتشار الذي حققته الإنجليزية لا يمكن مقارنته بأي لغة أخرى، فاللغة الصينية على سبيل المثال، وعلى الرغم من كثرة أعداد الناطقين بها، فإن انتشارها الجغرافي جد محدود، كما أن اللاتينية أو الإغريقية بقيت محصورة تاريخياً في سياقات ثقافية ودينية ضيقة.

وعطفاً على ما تقدم، فإن أهم خاصية جيوسياسية للإنجليزية، تتمثل في وجودها في كل أنحاء المعمورة؛ إذ إنه حتى في سياق الصراع ما بين الشرق والغرب في مرحلة الحرب الباردة، كانت الإنجليزية لغة عالمية، بينما بقيت الروسية منحصرة في الجمهوريات السوفييتية ودول الكتلة الشرقية وتقلّص حضورها بشكل لافت مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بينما بقيت الإنجليزية حاضرة كلسان أمومة في دول عديدة، من أبرزها الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا وبريطانيا، ونيوزيلندا، وكلغة أجنبية أولى تزاحم اللسان الوطني في العديد من الدول في مجموعة الكومنولث وآسيا والدول الإسكندنافية، وفشلت الفرنسية في فرض نفسها مرة أخرى كلغة عالمية مهيمنة، على الرغم من الجهود التي بذلتها باريس من خلال تأسيسها للمنظمة الفرانكفونية التي لم يكن باستطاعتها الصمود أمام قوة الإمبراطورية الأمريكية.

وتحوّلت الإنجليزية مع مرور الوقت إلى ما يشبه «اللغة الكونية» على الرغم من المقاومة الكبيرة التي ما زالت تُبديها اللغات الوطنية، من أجل المحافظة على الهويات القومية وترسيخ مبدأ التعددية اللغوية كمحرِّك أساسي للتطور الحضاري والثقافي للشعوب، فقد أصبحت الإنجليزية لغة المؤسسات الدولية؛ إذ إنه على الرغم من أن الأمم المتحدة تتيح لأعضائها التواصل بلغات متعددة، فإن خبراءها يستعملون الإنجليزية على نطاق واسع.

وتكمُن قوة الإنجليزية في السياق نفسه في قدرتها الهائلة على الوجود بقوة في مناطق عديدة من إفريقيا وآسيا، لم تكن تمثل فيها الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى، لاسيما بعد أن لجأت دول في إفريقيا والشرق الأوسط إلى اعتمادها كلغة أجنبية أولى على حساب الفرنسية، كما أسهم أيضاً توسّع استعمالها في شبه الجزيرة الهندية وشرق آسيا، في تعزيز دورها الجيوسياسي.

بيد أنه على الرغم من كل هذه القوة الجيوسياسية التي باتت تمتلكها الإنجليزية، فإنها تواجه تهديداً من طرف الإسبانية في أمريكا، وقد حذر صامويل هينتنجتون من هذا التهديد الذي تتعرض له الهوية الأمريكية بسبب موجات الهجرة الكبيرة من الدول الناطقة بالإسبانية، والذي جعل الإسبانية تنتشر بين المواطنين الأمريكيين إلى حد دفع الرئيس ريجان إلى المطالبة بسن تشريع يحمي الإنجليزية الأمريكية من زحف الإسبانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"