ما الذي يُقلقنا؟

23:55 مساء
قراءة 5 دقائق
3

لويس حبيقة *

تدنى طموحنا نتيجة الظروف السلبية المختلفة. كنا نتكلم منذ أشهر عن برامج السفر والتسلية واللهو، وأصبحنا اليوم نحاول جهدنا أن نبتعد عن كورونا، وأن نستمر بالعيش بأدنى الرفاهية الممكنة. تغير العالم كثيراً خلال السنة الماضية وربما لن نعود إلى ما كنا عليه حتى عندما يصبح التطعيم ضد كورونا موجوداً وموزعاً. دولياً، ما يشغل العالم هو عدد الإصابات الكورونية اليومية وعدد الضحايا، ولم نعد نهتم بالبطالة والنمو والتضخم. القطاع السياحي يعاني، والإفلاسات الكبرى على الأبواب، ولم يحصل ذلك حتى اليوم؛ لأن الشركات المختلفة ترشد إنفاقها إلى أقصى الحدود حتى تستطيع الصمود أطول مدة ممكنة. قطاعا النقل والطيران خاصة، كما هي كافة القطاعات السياحية من فنادق وملاهٍ، تعاني كما لم يحصل حتى خلال الحروب. سكان العالم يحلمون بالعيش المعقول والمقبول فقط؛ إذ غاب الطموح وتدنى مستوى الفرح وأصبحت التجمعات استثناءات نحاول جميعاً تجنّبها، خوفاً من الوباء المؤذي.

في هذه الظروف أصبح العالم أصغر من السابق بفضل وسائل الاتصالات التي تعززت في كل الميادين، خاصة التربية والتعليم. أصبحت مشاكل العالم متقاربة في السوء والعمق، ولم يعد الفارق في المستوى المعيشي كبيراً مثل الماضي. عندما نرى صفوف السيارات تقف لتتزود بالمأكولات في أهم المدن الأمريكية، نشعر بأن أوضاعنا تصبح بالمقارنة، مقبولة. عندما نرى صفوف المرضى في الشوارع وفي ممرات المستشفيات في أوروبا، نحزن عليهم ومعهم على المستوى الذي وصلت إليه العناية الطبية والاستشفائية في أهم الدول. عندما نقارن الظروف التي عشنا فيها بالظروف التي تعيش فيها الأجيال الجديدة الحالية، نشعر أننا ربما كنا محظوظين؛ لأننا رأينا العالم كما لن يروه هم. هذا ما تشير إليه الوقائع والمعلومات المتوافرة.

ما الذي تعانيه المجتمعات اليوم ويسبب الكثير من الجنون والتطرف في كافة الدول؟ ما الذي يدفع الإنسان إلى العنف تماماً كما حصل مع جورج فلويد في الولايات المتحدة، ومئات؛ بل آلاف الحوادث المماثلة. ما الذي سبب انخفاض تحمل أو قبول الآخر في كل المجتمعات؟ 

لماذا أصبح التحجر الفكري؛ بل إقفال الأذان الطرق الفُضلى المتبعة في المجتمعات؟ الضيق المادي والفكري الذي سببته التطورات الصحية والاقتصادية يؤثر في الواقع؛ بل في المستقبل المعيشي. الإيرادات المالية متوافرة عالمياً، لكن ما ينقص هي الأفكار الجديدة الجيدة والرغبة في التنفيذ بطرق ومعايير فذة. ما ينقصنا هو الرغبة في تنفيذ الإصلاحات مع احترام الآخرين خاصة الذين ليست لديهم المادة الكافية للعيش كما يرغبون. أسباب القلق الإنساني العالمي متعددة، ويمكن اختصارها كما يلي:

أولاً: الهجرة والرغبة فيها مهما كانت التكلفة. أن يأخذ الإنسان زورقاً صغيراً محملاً فوق طاقته بأضعاف العدد والذهاب به عبر البحار الهائجة إلى أوروبا أو غيرها هو أهم الدلائل على اليأس الذي يعيشه بعض الناس. الهجرة غير الشرعية مشكلة كبيرة للدول المصدرة والأخرى المستقبلة؛ لأن هذا العدد غير مرغوب فيه في الاتجاهين، وبالتالي يتعرض الوافدون إلى سوء الاستقبال؛ بل إلى المعاملة التي تكون غير إنسانية في العديد من الحالات. لا ننكر أن الهجرة في بعض الأحيان مفيدة للدول المستقبلة؛ لأنها تؤمن اليد العاملة في قطاعات لا يرغب فيها المواطن العادي، إلا أن الهجرة في معظمها غير مرحب بها لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، وبالتالي هناك نفور أو غضب تجاه المهاجرين غير الشرعيين.

ثانياً: فجوة الدخل والثروة التي كبرت مع الوقت خلال العقدين الماضيين وقتلت طموح الشباب والشابات الذين كانوا يحلمون في الماضي بتحسين أوضاعهم المادية. أتت هذه الفجوة المتزايدة من العولمة العنيفة التي أطاحت المقصرين والمهملين والكسولين والمتقاعسين. كانت للعولمة فوائد كبرى، لكن المساوئ كانت كبيرة أيضاً، خاصة تجاه الضعفاء أو تجاه من لم يكن مستعداً أو جاهزاً للمنافسة الكبيرة المفتوحة عالمياً.

ثالثاً: التقدم التكنولوجي الهائل الذي حصل في العقدين الماضيين والذي لم يكن ممكناً استيعابه من قبل أكثرية سكان العالم. التقدم الهائل في الاتصالات وفي العلوم المخبرية والبيولوجية والإنسانية والاجتماعية، وغيرها، قضى على من لا يمتلك القدرة الاستيعابية لجميع أو بعض هذه العلوم. من لم يستوعب خسر ولا مكان للاختباء أو لتجاهل التقدم. عالمياً من لا يتابع تطور المجتمعات يومياً يصبح متخلفاً؛ بل مقصراً خلال ساعات فقط. القدرة على استيعاب التكنولوجيا المتطورة يومياً ليست متوافرة للجميع، وبالتالي يشعر الإنسان بأن مجتمعه أقصاه أو أخرجه من التفاعل الضروري مع بقية المواطنين والمؤسسات.

رابعاً: التغير المناخي أثر سلباً في صحة الإنسان ورفاهيته، خاصة أن القدرة على المواجهة ضعيفة وتتطلب تغيير نمط الحياة المدنية. للتغيير المناخي أوجه عدة، منها التلوث والنفايات وحسن استعمال الموارد المتوافرة، من مياه وهواء وغيرها. الدول النامية عاجزة عن المواجهة لعدم توافر الإيرادات والقدرات المادية والإنسانية المناسبة. الدول الغنية بنت اقتصاداتها على التلوث لهدف النمو السريع وتحقيق التنمية. هنا تكمن أهمية فكرة «التنمية المستدامة»؛ أي تحسن المعيشة مع احترام البيئة ونوعية الحياة. لكن هذا يتطلب الوقت والاستثمارات، واليوم أتت كورونا لتحول الاهتمامات إلى مواضيع أخرى مستعجلة لا تقل أهمية.

خامساً: النمو حيث النجاح في تحقيق نسب عالية كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد ممكناً، لذا مع تزايد النمو السكاني في العديد من الدول النامية والناشئة، تحصل مشكلة معيشية تعالج بصعوبة على الرغم من النيات الحسنة. العودة إلى النمو القوي تتطلب عودة القطاعات إلى العمل بطريقة طبيعية، وهذا ليس ممكناً اليوم. ضعف النمو وغيابه أحياناً يؤثر في مستويات الفقر وفي كل المعايير الإنسانية والصحية والاجتماعية.

لا شك في أن هناك تقصيراً اقتصادياً في المواجهة. أقصد هنا أن الخبرات الاقتصادية في معظم الأحيان كانت مدعية للخبرة ولم تحسن إيجاد الحلول المناسبة والتوجه بها إلى الرأي العام. هذا الواقع أفقد الاقتصاديين عموماً، ثقة المجتمعات التي لم تعد تستمع إليهم ولا إلى حلولهم المقترحة لكافة المشاكل. هناك ضرورة لعودة الخبرات الاقتصادية العلمية الكفؤة إلى الساحة كي تعود ثقة المجتمعات بهم، وبما يقترحون.

أخيراً في الدول العربية، المعاناة كبيرة والقطاعات الاقتصادية متعثرة، خاصة في النقل والسياحة وتؤثر سلباً في التحويلات إلى الدول المصدرة للعمالة. انخفضت هذه التحويلات الإقليمية 23% خلال النصف الأول من هذه السنة. المطلوب في هذه الظروف القاسية هو دعم الاقتصادات الوطنية تخفيفاً للهجرة غير الشرعية، حيث يجب أن يبقى الأمل على الرغم من كل شيء.

*أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"