بشر بلا ملامح

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

ظل الأدب، منذ أمد طويل، يهتم بصورة البطل في شخوصه المتعددة، البطل الشجاع، المنقذ، المثقف، صاحب الأخلاق والفضائل والقدوة، بل وحتى المنكسر والمنهزم، أو الشخصية المأساوية، فالبطولة الفردية كانت محور اهتمام الأدب الذي عمل على مقاربة الشخصيات التاريخية، التي كان لها أدوار كبيرة في صناعة الأحداث، وتحولت إلى رموزيتمثلها الناس تبعا لذلك.

وحتى في زمن النكسات والهزائم، ظل الأدب يستحضر صورة البطل الملهم والمحرر، ويعقد عليه الأمل في النصر والخروج من المحنة، وهنالك الكثير من الأبطال الروائيين الذين خلدوا في ذاكرة القراء مثل «جودو»، بطل رائعة بيكيت «في انتظار جودو»، والذي يرمز للخلاص، وكذلك «جان فالجان»، بطل «البؤساء»، لهوجو، والذي يحمل قيمة النبل، و«دون كيخوت»، لثربانتس، حيث بطلها يستعيد أزمنة الفروسية ويحقق الأحلام الشاردة، وعلى ذات النسق سار السرد العربي، فصنع الكثير من الأعمال التي تحتفي بالأبطال وسيرهم.

من هنا، فإن صورة الأبطال في الأدب، منذ عشرينات القرن الماضي، هي نتاج رؤية فكرية، وانعكاس للواقع الاجتماعي وروح العصر، لكن هذه الصورة الأدبية تغيرت تماماً، منذ تسعينات القرن الماضي، استجابة للمتغيرات الاجتماعية والفكرية الكبيرة التي مر بها العالم فمنذ نهاية الحرب الباردة، تأسس تاريخ جديد، بدأ مع بروز ما بات يعرف بالعولمة، والتي فرضت واقعاً مختلفاً، فبدأ الأدب مسيرة جديدة بمنظور جديد في النظر للواقع، هو بمثابة انقلاب على تيارات تقليدية مثل الطبيعية والواقعية والرومانسية، وشمل ذلك صورة البطل التقليدية التي تغيرت هي الأخرى، مع تغير نمط الحياة التي باتت تميل نحو سيادة الروح الفردية وحياة العزلة والتشظي، لذلك جاء أبطال الأعمال الروائية والسردية بصورة عامة يشابهون المرحلة الراهنة، كما أعلن في ذات الوقت عن نهاية البطل الفرد حامل الأحلام والقيم، وتحول إلى شخص عادي ضمن شخوص العمل الإبداعي، وفي بعض الأحيان نجد أن البطولة تنسب إلى حالة، أو مفهوم، أو فكرة، أو إلى اللغة في بعض الأعمال التي تميل إلى الأسلوبية النثرية في صناعة القيمة والمعنى الجمالي.

فأعمال مثل «عندما بكى نيتشه»، و«علاج شوبنهاور»، للكاتب «إرفين د. يالوم»، لا تسعى إلى إعادة سيرة نيتشه وشوبنهاور، بقدر ما تقتفي أثر المفاهيم وإسقاطها على الواقع الراهن.

وقد تزامن مع بروز الأعمال الإبداعية الجديدة التي أعلنت قتل البطل الفرد، ظهور مدارس عدة في الفلسفة والنقد الحديث، مثل البنيوية الجديدة والتفكيكية وغيرهما، وكلها دعت إلى التخلص من مصطلح «البطل»، لما يحمله من دلالات قاصرة وضيقة، وكذلك مع التطور في علم اللسانيات والسيمياء والعلامات؛ أي أن هناك جهداً نظرياً وفكرياً قاد إلى واقع الرواية الجديد الذي يهمش فكرة البطل، وذلك من خلال الاهتمام برصد وتصوير الواقع والوعي الاجتماعيين للأفراد، وفي بعض الأحيان يتم الاستعاضة عن مصطلح «البطل»، بتوصيف آخر وهو «الشخصية الرئيسية»؛ أي ذات الأثر المرئي والملموس في البناء الدرامي.

بات مصطلح «البطل»، يثير مشكلة كبيرة في مجال الأدب والنقد واللسانيات والسيميائيات، ولم يعد يمتلك تلك الصفة لخصائصه الذاتية، بل من خلال ما يقوم به من دور داخل النسق السردي، ومن خلال علاقته بالشخصيات الأخرى.

ذهب الناقد الفرنسي جوليان جريماس، مؤسس السيميائيات البنيوية، إلى ضرورة مراجعة فكرة البطل الفرد، التي تنتفي الحاجة إليه، في صناعة الحدث والمسارات السردية، وهو أشبه بما دعى إليه  باختين، الذي كان يرى بضرورة تعدد الأصوات داخل العمل السردي، وأن يتركها الكاتب تقول ما تريد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"