مفهوم الاستراتيجية بين الحرب والسلم

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

نشأت الاستراتيجية في ساحات الحرب والوغى، حيث فرضت أوضاع الصراع على القادة العسكريين، وضع خطط من أجل الانتصار في المعارك؛ وأضحت الاستراتيجية تمثل في الحقبة المعاصرة تخصّصاً رئيسياً في الأكاديميات العسكرية التي تحرص على أن تقدم لضباطها تكويناً يجعلهم قادرين على بلورة تكتيكات واستراتيجيات تمنحهم فرصاً أكبر للانتصار على العدو؛ وقد تبيّن مع مرور الوقت أن الاستراتيجيات الضمنية والصريحة يتجاوز مجالها الحروب العسكرية، ويمكنها أن تكون عوناً للإنسان في مختلف صراعاته اليومية وفي مواجهاته الفكرية والسياسية، ومن ثم فإن دورها الحاسم في حالات السلم والمعارك الكلامية المتعلقة بالحِجاج لا يقل أهمية عن دورها في ميادين الحروب.

 يعرِّف كرستيان بلانتان الاستراتيجية في معناها العام والشامل، بقوله: إنها مجموعة من الأفعال التي يتمّ التخطيط والتنسيق لها من طرف فاعل يسعى إلى تحقيق هدف محدّد ودقيق. ويمكن للاستراتيجية، بحسب السياقات المختلفة، أن تكون ذات بعد خصامي أو تعاوني، وتتبلور الاستراتيجيات الخصامية وتتضاد في مجالات عمل غير تعاونية، مثل الحرب، الشطرنج، والمنافسة التجارية وتهدف كل واحدة إلى تحقيق تقدم حاسم على حساب خصم يسعى إلى تحقيق أهداف معارضة وغير متوافقة. ويجري إخفاء الاستراتيجيات الخصامية والمعادية عن الخصم، وتبدأ في التجلي بالنسبة إليه تدريجياً أثناء وضعها حيّز التنفيذ.

 أما الاستراتيجيات التعاونية، كما يضيف بلانتان، فتشتغل في حقول عمل أين يكون الشركاء متعاونين على تحقيق هدف مشترك، بحيث يسعى كل طرف إلى الحصول على مكاسب. وتكون المقاصد الاستراتيجية في هذه الحالة واضحة وشفافة بالنسبة لكل الأطراف، ويمكننا في سياق هذا المعنى أن نتحدث عن استراتيجية للبحث لتعيين خطة عمل يمكنها أن تسمح بحل مشكل ما، أو عن استراتيجية تربوية يقوم الأستاذ أو المعلم ببلورتها مع الطلاب.

 وتتعارض الاستراتيجية مع التكتيك وفق أبعاد مختلفة، ففي المجال العسكري تشتغل الاستراتيجية قبل المعركة ويتم توظيف التكتيك خلال المعركة؛ ويجري الحديث عن التكتيك أيضاً للإشارة إلى التطبيق الموضعي والمحلي لاستراتيجية عامة، ويزاوج الباحث في مجال منهجية البحث العلمي بين الاستراتيجية البحثية وتقنيات البحث، إذ تساعد الاستراتيجية على توجيه البحث وتُسهم التقنيات في إنجازه.

 بيد أنه وفي سياق الاستراتيجيات الحِجاجية لا يتم استعمال عبارة تكتيك حِجاجي، فالاستراتيجيات الحِجاجية هي أشكال لاستراتيجيات لغوية وتواصلية (استراتيجيات تلفظية واستراتيجيات تفاعلية)، والاستراتيجية الحِجاجية هي مجموعة من الأفعال ومن الاختيارات الخطابية والتفاعلية المخططة والمنسّقة بغرض دعم وإسناد وجهة نظر ما.

وتكون الاستراتيجية الحِجاجية خصامية أو عدائية إذا كان هدفها المساهمة في انتصار وجهة نظر مضادة لتلك التي يدافع عنها الخصم، بينما تكون تعاونية من خلال قيامها بإثارة أو مضاعفة حالتين:

 يمكن للاستراتيجية الحِجاجية أن تنصرِف أيضاً – كما يؤكد بلانتان - نحو التلاعب والمناورة والتضليل، يقول فولكوف في سياق أسلحة الحرب: «إن قول الحقيقة هو حكم مسبق بورجوازي تافه بينما يكون الكذب مبرّراً من خلال الأهداف». 

وهناك قول يُنسب إلى تشرشل يزعُم فيه «أنه في زمن الحرب تكون الحقيقة جد ثمينة إلى درجة أنه يتوجّب- دائماً- إحاطتها بحراس شخصيين من الكذب».

 كما يُصبح الحجاج أداة للتلاعب في سياق الدعاية السياسية ويتعلق الأمر في حالة الحِجاج بإثارة أو مضاعفة انخراط العقول في الأطروحات التي تُقترح عليهم من أجل الموافقة عليها. 

أما في حالة الدعاية فيتعلق الأمر «بخلق وتحويل أو تأكيد وجهات نظر وآراء اعتماداً على إجراءات سيميائية متعددة» (صورة، موسيقى، المشاركة في تحركات الجماهير).

 يخلُص بلانتان إلى أن هناك علاقة ما بين التلاعب والكذب: فالكذب وإخفاء النوايا، يؤديان إلى الانحدار من الحِجاج إلى التلاعب، فالخطاب التلاعبي قائم على التضليل والكذب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"