التعددية الغائبة

23:03 مساء
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

معين الكاتب الجيد لا ينضب، فهو يتفادى تكرار مواضيعه، غير أن ذلك الأمر لا ينطبق على كل الكتاب، فهناك من يقع في مصيدة الفكرة الواحدة التي لا يكاد يغادرها إلا ليعود إليها مجدداً، والأصح أن يتم تناول الموضوع الواحد عبر رؤى وزوايا وطرق تناول مختلفة، لكن البعد الواحد يظل يسيطر على كثير من المؤلفين، وهؤلاء فشلوا في الخروج من تلك دائرية التفكير لمعالجة موضوعاتهم وكانت النتيجة هي النضوب والجدب، وبالتالي إما التوقف عن الكتابة؛ أو الاستمرار في الحلقة المفرغة ذاتها.

إن الموضوع يختلف عن المنهج أو الأسلوب، فالأخير يدل على المؤلف؛ أي لكل كاتب بصمته التي تجعل القارئ يتعرف إليه حتى إن لم يرد اسمه على الموضوع؛ لأن للمبدع أدوات وأسلوباً خاصا به، حتى لو اختلفت موضوعات كتاباته، وتظل دائماً له بصمة تشير إليه، وتلك هي الأسلوبية.

وقديماً قال أحد الفلاسفة: «كل الفلاسفة عملوا على اكتشاف العالم، لكن المهم هو تغييره». وكانت مناسبة تلك المقولة، هي تشابه المواقف الفكرية عند أكثر من فيلسوف واحد، وبالتالي فإن عملية التغيير تتضمن بالضرورة، التعدد والاختلاف، فمثل تلك المقولات تمثل مفتاحاً نحو تعدد الرؤى، وتوسيع الآفاق والمدارك؛ لذلك نجد أن كثيراً من الفلاسفة المعاصرين، أحدثوا اختراقات كبيرة في المواضيع، أو حتى الموضوع الواحد الذي طرقوه، من خلال التنوع في الأسلوب وعبر قلب عادات التفكير والبحث عن جديد، على مستويي الفكرة والتعامل، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الأدب الذي تحركه دائماً المتغيرات والتحديات الاجتماعية والإنسانية والوجودية، فعند ظهور تيار فكري ما، في مجال الأدب، يعمل المبدعون على تناول موضوعاتهم وفق ذلك التيار أو الاتجاه. 

فعلى سبيل المثال، عندما ظهر تيار العبث، عقب الحرب العالمية الثانية، نتيجة لظروف ومشكلات اجتماعية حاصرت الإنسانية في كل مكان، برز أكثر من مؤلف يكتب حول الموضوع ذاته، برؤى وأساليب مختلفة؛ بل إن الكاتب الواحد كان يتناول موضوعه مراراً وتكراراً، بشكل ومضمون جديدين في كل مرة.

إن الكاتب الذي تكون إصداراته متشابهة، هو بالضرورة صاحب قاموس شحيح على مستوى الأفكار والرؤى والمرجعيات الفكرية والمعرفية، وقد فشل في أن يوسّع مداركه عبر أكثر من قراءة؛ لأن القراءة هي التي تمد المؤلف بالتجربة والفكرة وبالأدوات والأسلوب. فمن يكون اطلاعه شحيحاً، تقل تجاربه ومصادر معلوماته، وبالتالي يصبح في حالة انقطاع معرفي تام، وذلك الأمر يحول بينه وبين إمكانية النجاح في إحداث اختراق، فإذا نظرنا إلى كاتب عربي بمستوى نجيب محفوظ الذي كانت الثيمات الأساسية في أعماله الروائية، هي قضايا اجتماعية تطل على عوالم المهمشين، مثل الحارة وما شابه ذلك، كان النجاح الحقيقي لأعماله على الرغم من كثافة إنتاجه، يتمثل في أن كل عمل روائي له جاء مختلفاً عن الآخر، وذلك أمر نادر في وقتنا الراهن، حيث نجد للكاتب الواحد اليوم، عدداً من الأعمال تدور حول فكرة واحدة، من دون لحظة اختراق جديدة؛ بل إن الأنكى هو أن نجد أن بعض المؤلفين يفشلون حتى في تمثل هذا التكرار في أعمالهم بصورة خفية، وبعضهم يعيد «لصق» فقرة أو مقطعا، أو حوارا كاملا من رواية أو عمل قديم، في نص جديد.

إن الكاتب الذكي يتفادى التكرار حين تناول الموضوع بأكثر من وجهة نظر واحدة في مؤلفاته، وعبر عملية إبداعية تقود إلى الخلق والابتكار، بحيث يعبر كل نص يُنتجه عن فكرة جديدة مختلفة، وذلك هو التفرد الذي يميز كل مؤلف عن الآخر، وهو سر الإبداع الذي يعني الابتكار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"