الطاقة النووية في اليابان وجرس جاوس

01:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
آراء وتحليلات
آراء وتحليلات

د. عبدالعظيم حنفي *

في عام 1954 بدأت الحكومة اليابانية برنامجاً للطاقة النووية على المدى الطويل. في البداية كانت الشركات الأجنبية تشارك في هذا البرنامج، ولكن سرعان ما أصبحت الشركات اليابانية هي الجهات الفاعلة الرائدة في هذه الصناعة الجديدة. منذ ذلك الحين شيدت 22 محطة نووية و54 مفاعلاً في جميع أنحاء اليابان؛ لتزودها بقرابة ثلث الطاقة المستهلكة في البلاد. كانت هناك الكثير من العوامل وراء التنمية الاقتصادية في اليابان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بما في ذلك العوامل الدينية والثقافية. ومن المستحيل شرح مثل هذا التوسع الاقتصادي السريع دون الأخذ بعين الاعتبار الإمدادات الدائمة الرخيصة للطاقة كأحد المدخلات الرئيسية للإنتاج الصناعي، وخاصة بالنسبة للصناعات اليابانية الرائدة، التي تعتبر مسؤولة عن المعجزة اليابانية. صحيح أيضاً أن اليابان أجبرت على الاستفادة من الطاقة النووية، خاصة بعد أزمة النفط في بداية السبعينيات، وأصبح توفير الطاقة الآمنة المستمرة أولوية وطنية. ولكن بعد سنوات عديدة اتضح أن الطاقة النووية ليست مصدراً رخيصاً للطاقة. ومع ذلك فإن تكلفة الكهرباء المولدة بواسطة الطاقة النووية لا تعكس التكلفة الحقيقية؛ لأن الصناعة النووية في اليابان لا تزال بدون أي موقع للتخلص من النفايات النووية النهائية. إلى جانب ذلك هناك مبرر إحصائي لاستخدام الطاقة النووية، وهو أن احتمال وقوع حادث نووي منخفض جداً. 

وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية حدثت 22 حادثة في محطات الطاقة النووية في العالم منذ عام 1952 حتى عام 2011. ووفقاً لبيانات الوكالة المذكورة فإن 9 % فقط من الحوادث يمكن اعتبارها حوادث خطِرة أو كبرى. ويمكن اعتبار وقوع ثلاثة حوادث من هذا النوع خلال نصف قرن عدداً قليلاً جداً. وتلك الحوادث وقعت في ويند سكيل في بريطانيا عام 1957. وثري مايل آيلاند في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979. وتشيرنوبيل في الاتحاد السوفييتي عام 1986. وبعبارة أخرى فإن احتمال وقوع كوارث نووية كبرى هو احتمال منخفض؛ لذلك يرى المدافعون عن استخدام الطاقة النووية أنها تعتبر آمنة نسبياً.

من ناحية أخرى، وخاصة في اليابان، المصادر الرئيسية للحوادث النووية هي الزلازل وأمواج تسونامي. ولذلك تشيد المحطات النووية في اليابان باستخدام تكنولوجيا خاصة في البناء، تجعل المرافق النووية تقاوم مثل هذا النوع من الظواهر الطبيعية، من خلال وضع احتمالات حدوث زلازل وأمواج تسونامي ذات مستويات شدة مختلفة في الاعتبار. منطق دعاة استخدام الطاقة النووية هو أمر شائع جداً، وهو الطريقة السائدة في التفكير في عدة مجالات في العلم والسياسة، وتسمى وجهة النظر «الجاوسية» للعالم، التي ترتب الأحداث اليومية وفقاً لاحتمال حدوثها. والنتيجة هي توزيع إحصائي للأحداث يسمى التوزيع الطبيعي، ويسمى التمثيل البياني لها «جرس جاوس» وفقاً لوجهة النظر العالمية، ما يهم هو ما يحدث في مركز التوزيع، وهو يقع تحت المنطقة الكبرى من الجرس.

والسؤال هو ما إذا كان عالمنا الحقيقي عالماً جاوسياً أم لا، وبالتالي ما إذا كانت الأحداث التي تقع في أقصى التوزيع الطبيعي تكاد لا تذكر حقاً. يصبح هذا السؤال محورياً إذا كانت الأحداث المفترضة هي قضايا تتعلق بالموت أو الحياة، وإذا كانت تؤثر على مناطق واسعة من كوكبنا.

في كتاب رائع يناقش أهمية الأحداث بعيدة الاحتمال، ويطلق على هذه النوعية من الأحداث البجعات السوداء؛ لأنه قبل 1697 عندما اكتشف الأوروبيون الأوائل البجعات السوداء في غرب أستراليا، كانت الفكرة الشائعة في القارة العجوز أن البجع لونه أبيض؛ لذلك من المستحيل وجود البجعة السوداء أو بتعبير صارم كان احتمال رؤية البجعة السوداء غير وارد، ويوضح الكتاب أنه في مجال التاريخ المالي والاقتصادي العام لعبت أحداث غير متوقعة للغاية دوراً هائلاً، والأمثلة كثيرة جداً، وتغطي فترة طويلة بداية من أزمة عام 1929، وحتى سقوط جدار برلين في عام 1989.

وهذا الكتاب، اقترح وصف الحوادث النووية بالبجعات السوداء أو على نحو أدق أن الحكومات ورجال الأعمال والأحزاب السياسية والمنظمات الأخرى الذين شجعوا استخدام الطاقة النووية مقتنعون بأن استخدامها آمن؛ لأن احتمال وقوع حوادث نووية خطِرة منخفض جداً مثل احتمال رؤية البجعات السوداء.

فيما يتعلق بفوكوشيما، تم حساب ارتفاع الموجات على أنه لن يتجاوز 7 أمتار في حالة حدوث تسونامي. في الواقع كانت المرة الأخيرة التي ضرب فيها تسونامي بهذه الشدة شواطئ توهوكو منذ أكثر من 1100 سنة. وهذا يعني أن احتمال حدوث موجات بحرية أعلى من ذلك منخفض للغاية. والمثير في الأمر أن ارتفاع الأمواج بلغ 14 متراً في 11 مارس 2011. وهكذا كان ارتفاع أمواج تسونامي في محطة فوكوشيما أعلى مرتين من التوقعات.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"