المنصات الرقمية كفضاء للتعبير

01:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تطورت تكنولوجيات الإعلام والمعلوماتية والإنترنت خلال العقدين الأخيرين بشكل مهول، أدى إلى حدوث تحولات جذرية في تصوراتنا بشأن التواصل والممارسة السياسية وبكل ما له صلة بوسائل الاتصال الجماهيري، لاسيما مع ابتكار «السوشيال ميديا» التي تحوّلت إلى منصات رقمية للتعبير السياسي تتحدى سلطة الدول القومية وتخترق سيادتها وتهدد في أحايين كثيرة استقرارها وتجانسها الاجتماعي، وسمحت هذه الوسائط ببروز شخصيات مشهورة على مستوى الفضاء السيبراني تستثمر تكنولوجيات الصورة والبث الرقمي للترويج لقناعاتها السياسية والدينية وتصوراتها المجتمعية وللتأثير بالتالي على قطاع واسع من الجمهور.

 وقد كانت الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية، سباقة إلى استثمار افتتان الجماهير بسحر التكنولوجيات الرقمية من أجل التأثير على الرأي العام خلال مختلف المحطات السياسية والانتخابية كما حدث في عهد الرئيس أوباما وخلال الولاية الرئاسية لترامب الذي جعل العالم يطلع على قراراته ومواقفه السياسية انطلاقاً من تغريداته على منصة «تويتر»؛ كما تشير الباحثة أناييس ثيفيو، إلى أن فرنسا عرفت خلال انتخابات الرئاسة في سنة 2017 أول استعمال لمنصة «اليوتيوب» لإدارة الحملة الانتخابية، وبخاصة من طرف زعيم المعارضة اليسارية جون لوك ميلونشون، نتيجة لاعتماد الشباب على هذه المنصة من أجل الحصول على معلومات وتحليلات سياسية مبسطة وسريعة؛ حيث يحظى بعض مشاهير «اليوتيوب» بمتابعة قياسية تتجاوز 13 مليون مشترك وملايين المشاهدين.

 ومن الواضح أن هذه المنصات الرقمية وفي طليعتها «اليوتيوب» باتت تفرض تحديات جدية على الطبقة السياسية في مختلف الدول، بعد أن أصبح بإمكان ناشط سياسي يحظى بمشاهدة واسعة أن ينافس أكثر الأحزاب التقليدية قوة وانتشاراً، ويرغمها هي الأخرى على توظيف وسائط التواصل الاجتماعي من أجل التواصل مع الجمهور، ويُجبر أيضاً القنوات التلفزيونية الكلاسيكية على القيام بتعديل استراتيجيتها المتعلقة بالتواصل، ويدفعها إلى بث مقاطع مهمة من برامجها على المنصات الرقمية التي تضمن لروادها حضوراً مستمراً وضاغطاً على مستوى مشهد التواصل الجماهيري.

 ويشير كل من دافيد دويير وباسكال ريكو، إلى أن «اليوتيوب» تحوّل في فرنسا إلى فضاء للتعبير السياسي على الرغم من القوة التي تتمتع بها وسائل الإعلام الأخرى، وقد شكّل الحوار الذي خص به الرئيس الفرنسي، الشاب هوغو ترافير سنة 2019 على قناة «اليوتيوب» التي يديرها، نقطة تحوّل بارزة في مسار التعبير والتواصل السياسي الجماهيري في فرنسا، بالنظر إلى حاجة أغلبية الشباب إلى متابعة الأخبار السياسية بطريقة سريعة وسلسة وبأسلوب عصري يتجاوز القوالب اللغوية الجامدة التي يصفها جيل الرقمنة بلغة الخشب، من خلال قنوات يديرها أفراد يخاطبون الناس بناء على قواعد جديدة تراعي اهتماماتهم وتتجاوب مع تطلعاتهم بشأن تطورات الأحداث.

وأدى هذا التطور الكبير لوسائط التواصل، وبخاصة «اليوتيوب» إلى دفع الدول إلى اعتماد استراتيجية سياسية جديدة للتواصل مع الجمهور، في مرحلة يعمل فيها ناشطون ليس لديهم من الموهبة والكفاءة سوى سهولة استعمال سلاح الكلمة وشعارات الجماهير وكاميرات غير محترفة للتأثير على الآخرين، على الرغم من أنهم يفتقدون لرؤى سياسية واضحة تستند على قواعد استراتيجية ذات معالم محددة وتأخذ في الحسبان منطق الدولة التي ينتمون إلها وتراعي مصالحها القومية في مواجهة خصومها؛ الأمر الذي يخلق واقعاً سياسياً جديداً تسهم في تنشيطه شخصيات لا تملك ما يكفي من الخبرة السياسية، لكن لها جرأة كبيرة على الخوض في أكثر الملفات حساسية وتعقيداً.

 هكذا تحوّل «اليوتيوب»، كما يقول دافيد دويير، إلى شكل إعلامي جماهيري للعمل السياسي، يَبرز من خلاله فاعلون «هواة» يدعون تفسير السياسة، يتدخلون في يومياتها ويجعلون مواضيعها في متناول الجميع اعتماداً على أنماط جديدة للتعبير، وهو الفضاء ذاته الذي يسعى أيضاً إلى السيطرة عليه سياسيون محترفون بوصفه منصة جاهزة للتعبير أقل كلفة وأكثر انتشاراً نتيجة لطابعه الحواري والمفتوح، الذي يمكن التحكم فيه بشكل واسع من حيث مدة البث ومضمون الأفكار السياسية بعيداً عن مقص الرقيب.

 لقد ساوى «اليوتيوب» كما يقال: بين الجاهل والمتعلم مثلما ساوت البندقية بين الشجاع والجبان، لذلك، فإن العديد من الدول تعمل على توظيفه للدعاية السياسية ولضرب استقرار الدول المتنافسة معها من خلال تحريض المعارضين لها على الترويج لأخبار كاذبة على غرار ما تمارسه بعض القوى الإقليمية مثل تركيا التي تُحرّض بعض المدونين والإعلاميين على زرع الفتنة في الدول العربية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"