عادي

كيف ساهمت «أكبر كارثة طبية» في إصلاح قوانين الدواء

22:18 مساء
قراءة 6 دقائق
1

بين عامي 1957 و1962، ولد أكثر من 10 آلاف طفل بتشوهات جسدية ناجمة عن عقار الثاليدوميد. ومن هذا المنطلق جاءت لوائح أكثر صرامة للموافقة على الأدوية واللقاحات الجديدة والتي لا يزال يُعمل بها حتى يومنا هذا.

بدأت قصة ما أطلق عليه بعض العلماء «أكبر كارثة طبية من صنع الإنسان على الإطلاق» في ألمانيا الغربية في خمسينات القرن الماضي، عندما طوّر باحثون في شركة «كيمي جروننتال» عقار الثاليدوميد.

في يوليو/ تموز 1956، رخصت السلطات الطبية في ألمانيا الغربية بيع العقار في الصيدليات من دون وصفة طبية. وطوّر هذا الدواء كمهدئ للأعصاب أو كمهدئ عام، ولكن سرعان ما أصبح الناس يتناولونه للتخفيف من مجموعة من الحالات، بما في ذلك الالتهاب الرئوي ونزلات البرد والإنفلونزا وكذلك للتخفيف من الغثيان في بداية الحمل.

وفي غضون بضع سنوات، قامت شركة «كيمي جرونتثال» بمنح تراخيص لـ14 شركة أدوية لتسويق الثاليدوميد في 46 دولة في جميع أنحاء العالم تحت 37 اسماً تجارياً على الأقل.

آمن تماماً

في المملكة المتحدة، بدأت شركة «ديستيلرز كومباني بيوكيميكال» بتسويق الدواء تحت اسم «ديستافال» في عام 1958 كعلاج لغثيان الصباح. وعلى الرغم من عدم وجود دليل من الدراسات التي أجريت على البشر لدعم ذلك، فإن إعلانات الشركة أشارت إلى أنه بإمكان النساء الحوامل والأمهات المرضعات تناول الدواء بأمان تام من دون أن يكون له أي تأثير سلبي على الأم أو الطفل.

واستناداً إلى اختبارات السميّة القياسية التي أجرتها «كيمي جروننتال» على الفئران، اعتقدت الشركة أنه حتى الجرعات العالية جداً منه غير ضارة بالبشر. وكان الدكتور ألكسندر ليزلي فلورنس، الطبيب العام من بلدة توريف الاسكتلندية، أول اختصاصي رعاية صحية يشكك علناً في هذا الافتراض.

وفي خطاب أرسله إلى المجلة الطبية البريطانية في عام 1960، قال فلورنس: إن أربعة من المرضى أصيبوا بتنميل شديد وخدر أو حرقان مشابه للدبابيس والإبر في أيديهم وأقدامهم أثناء تناولهم للثاليدوميد.

وكتب في خطابه: «إن ثلاثة من المرضى الذين توقفوا عن تناول الثاليدوميد لمدة شهرين إلى 3 أشهر، لوحظ تحسن كبير في أعراضهم، ويبدو أن هذه الأعراض السمية لتناول عقار الثاليدوميد».

وفي العام التالي، كتب الدكتور ويليام ماكبرايد، طبيب التوليد الأسترالي الذي ساهم في الترويج للثاليدوميد كعلاج لغثيان الصباح، رسالة إلى مجلة «ذا لانسيت» يصف فيها «تشوهات شديدة متعددة» في طفل واحد من بين 5 أطفال ولدوا لأمهات تناولن الدواء أثناء فترة حملهن.

وبعد تحقيق فيدرالي في ألمانيا بشأن زيادة مماثلة في التشوهات الخلقية، أوقفت شركة «كيمي جروننتال» توزيع الثاليدوميد على المستوى الوطني في

الـ26 من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1961، أي بعد 5 سنوات من توفر الدواء بالأسواق، وحذا الموزعون في المملكة المتحدة حذو الشركة الألمانية في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته. وبحلول عام 1962، حظر الثاليدوميد في معظم البلدات التي كان يباع فيها.

ونظراً لأنه كان يتكون من أدوية السعال للأطفال، بقي الثاليدوميد في خزانات الأدوية في جميع أنحاء العالم لفترة طويلة بعد سحبه من السوق، وفقاً لجمعية الثاليدوميد في المملكة المتحدة.

عيوب خلقية

ويدرك المجتمع الطبي الآن أن الدواء يغيّر في نمو الجنين إذا تناولته المرأة الحامل بعد 20 إلى 37 يومياً من الحمل. ويتسبب الثاليدوميد بمجموعة واسعة من التشوهات الخلقية، وأكثرها شيوعاً تفقم الأطراف، والذي يشير إلى وجود أطراف مفقودة أو قصيرة. ويمكن أن يؤثر الدواء أيضاً في أطراف الجنين فيصغر حجم اليدين والقدمين.

ويؤثر الثاليدوميد أيضاً في نمو الأعضاء، بما في ذلك الدماغ والجهاز السمعي إضافة إلى العينين.

وتشير التقديرات إلى أن الدواء تسبب في حدوث ما لا يقل عن 10 آلاف حالة تشوه خلقي شديدة، ما أدى إلى وفاة ما يقرب من نصف الأطفال المصابين في غضون أشهر. وأشارت تقارير عن زيادة معدلات الإجهاض خلال الفترة التي استخدمت فيها الحوامل الثاليدوميد على نطاق واسع.

ولم تشهد الولايات المتحدة نفس المعدلات مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة، بسبب يقظة الدكتورة فرانسيس كيلسي، عالمة الأدوية في إدارة الغذاء والدواء (FDA). ففي عام 1960، رفضت كيلسي الطلبات المقدمة من شركة «ويليام أس ميريل» لتسويق الثاليدوميد، باعتباره مهدئاً يحمل علامة «كيفادون»، مشيرةً إلى عدم وجود أدلة بشأن سلامته على البشر، والمخاوف بشأن تسببه بتلف في الأعصاب.

غياب الرقابة

وحتى لو كانت النتائج السريرية متاحة، فلن تكون موثوقة، لأن التجارب في ذلك الوقت لم تتطلب موافقة أو إشراف إدارة الغذاء والدواء الأمريكية.

وفي الواقع، ومن دون علم إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، قامت الشركة بالفعل بتوزيع 2.5 مليون حبة ثاليدوميد على الأطباء في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وقد وصفها الأطباء لنحو 20 ألف مريض، من بينهم 207 حوامل. وشارك أكثر من ألف طبيب في هذه «التجارب السريرية»، على الرغم من أن القليل منهم راقبوا آثار الدواء على مرضاهم. ووفقاً لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، تم توثيق 17 ولادة بتشوهات مرتبطة بالثاليدوميد.

وأدت أزمة الثاليدوميد مباشرة إلى إصلاحات قانونية في الولايات المتحدة، وفي الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1962، أقر الكونجرس بالإجماع تعديلات «كيفوفر هاريس»، والذي وقع عليه الرئيس الأمريكي آنذاك، جون كينيدي، ليصبح قانوناً بعد 8 أيام.

وفي جوهره، يطلب القانون من الشركات المصنعة للأدوية توفير بيانات عن التجارب التي أجروها على الحيوانات والتجارب شديدة التنظيم على البشر، والتي تثبت أن الدواء آمن وفعّال قبل طرحه في السوق.

الإصلاحات التنظيمية

وعالج قانون «كيفوفر هاريس» أوجه القصور في التشريع السابق، ألا وهو «قانون الأغذية والأدوية ومستحضرات التجميل الفيدرالي» لعام 1936، والذي سمح للمصنعين بتسويق الدواء إذا لم تتصرف إدارة الغذاء والدواء في غضون 60 يومياً من تقديم الطلب.

وعلقت المفوضة السابقة لإدارة الغذاء والدواء، الدكتورة مارجريت هامبورج في مقال حول الإصلاحات نشر في موقع الوكالة على الإنترنت: «مع إقرار هذه التعديلات، لم تعد إدارة الغذاء والدواء متفرجاً عاجزاً، في الوقت الذي كانت فيه الأدوية غير المثبت فاعليتها تتدفق إلى الصيدليات ويتناولها المرضى».

ومن بين التعديلات الأخرى التي شملها القانون: مطالبة الشركات المصنعة بإثبات فاعليةالأدوية قبل طرحها في السوق والإبلاغ عن أي ردود فعل سلبية عنها، كما تتطلب أن تكون هذه الأدلة مبنية على دراسات سريرية كافية ومضبوطة جداً أجراها خبراء مؤهلون. ويتطلب الأمر أيضاً موافقة من المشاركين في الدراسة. ويكون لدى إدارة الغذاء والدواء 180 يومياً للموافقة على طلب الدواء الجديد أو رفضه. ويكون لدى إدارة الغذاء والدواء الصلاحية الكاملة للاطلاع على إعلانات العقاقير الجديدة التي تستلزم وصفة طبية، والتي يجب أن تتضمن معلومات دقيقة حول الآثار الجانبية المحتملة.

وفي الوقت ذاته، واعترافاً بحقيقة أن الثاليدوميد كان متاحاً من دون وصفة طبية؛ قامت العديد من البلدان بتحسين طرق تصنيفها وإدارتها لعملية الوصول إلى الأدوية. وفي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، أدى قانون الأدوية لعام 1968، إلى التمييز بين الأدوية التي تستلزم وصفة طبية، والأدوية المتوفرة فقط في الصيدليات من دون وصفة طبية، والأدوية المتوفرة في أي متجر ولا تحتاج إلى وصفة طبية.

الإبلاغ عن الآثار الجانبية

أنشأت المملكة المتحدة أيضاً نظاماً للأطباء للإبلاغ عن الآثار الجانبية التي لم تكن معروفة من قبل، والذي يسمى «مخطط البطاقة الصفراء»، والذي يسمح الآن لأي شخص بالإبلاغ عما قد تكون عبارة عن آثار جانبية للأدوية. وأنشأت إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة نظاماً مشابهاً للمستهلكين يسمى (MedWatch”)

كما طلبت حكومة المملكة المتحدة من الشركات تقديم أدلة من التجارب السريرية تظهر أن أي دواء جديد يعد آمناً للاستخدام أثناء الحمل قبل تسويق الدواء للحوامل. وكان التغيير الرئيسي الآخر هو أنه لم يعد من الممكن الموافقة على الأدوية على أساس التجارب على الحيوانات وحدها.

وأبرزت الاستجابة للأزمة بشكل خاص أن الحيوانات المختلفة تتفاعل بشكل متباين مع الأدوية، حيث وجد العلماء أن الفئران، التي تستخدم تقليدياً لفحص الأدوية، كانت أقل حساسية لتأثيرات الثاليدوميد من الحيوانات الأخرى مثل الأرانب والرئيسيات غير البشرية.

وقال البروفيسور نيل فارجيسون، رئيس علم الأحياء التطورية في جامعة أبردين في المملكة المتحدة: «منذ وقوع الكارثة، تغيّرت سياسات فحص الأدوية لتشمل العديد من الحيوانات وكذلك الاختبارات المعملية، ولم تتكرر مثل هذه الكارثة».

عقاقير قوية وفاعلة

قد يكون من المفاجئ معرفة أن الثاليدوميد لا يزال قيد الاستخدام حتى اليوم، حيث وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على استخدامه للعلاج من مرض هانسن، الذي كان يسمى سابقاً بالجذام، والورم النخاعي المتعدد، وهو نوع من السرطان يتشكل في خلايا الدم البيضاء.

ومع ذلك، ومنذ عام 1998، تم تقييد وصفه بشكل صارم من قبل برنامج التوعية بشأن الثاليدوميد، وهو برنامج يثقف الأشخاص الذين يتناولون الدواء حول مخاطره.

ويمكن للأدوية القوية بطبيعتها أن تسبب آثاراً ضارة وشديدة. وأظهرت الثاليدوميد الحاجة إلى تنظيم صارم لاختبار الأدوية وتسويقها وصرفها واستخدامها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"