ما الذي يحدث في الاقتصاد العالمي؟

22:00 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *

على نحو دراماتيكي، صعدت القيمة السوقية لشركة «تيسلا» للسيارات الكهربائية الأمريكية، في أواخر شهر نوفمبر الماضي، الى أكثر من نصف تريليون دولار، وهي التي لم يتجاوز عمرها سبعة عشر عاما (أسسها خمسة من رجال الأعمال الأمريكيين الشباب ذوي الاختصاصات العالية، من بينهم إلون ماسك، في عام 2003، كشركة متخصصة في الطاقة النظيفة وانتاج السيارات الكهربائية، وبطاريات خزن الطاقة، والألواح الشمسية، وسقوف المنازل الشمسية ونحوها).

قد لا تخرج القراءة الاقتصادية لهذه الأرقام ولهذه القفزة غير المعقولة لشركة تنتج سيارات مثلها مثل بقية شركات انتاج السيارات في العالم، عن أنها تعني أن موجة صعود السيارات الكهربائية، لم تعد فرضية مستقبلية، وإنما صارت حقيقة بأسرع مما توقعها البعض، وإن صعود أسهم شركة «تيسلا»، هو تعبير عن تهافت المستثمرين، في ظل ظروف الجائحة التي أبقت الأوراق المالية التي يُفترض أنها تقيس أداء الشركات في ميدان التداول، على أسهم هذه الشركات، تحلق بعيداً عن مجريات الأحداث على الأرض. إنما السؤال: لماذا يحصل هذا مع شركة «تيسلا» ولا يحدث مع بقية شركات انتاج السيارات الكهربائية؟ علماً أن الشركة تعرضت لأزمتين منذ انشائها عام 2003، كانتا كفيلتين بإفلاسها؛ فهناك 14 شركة عالمية رئيسية لإنتاج السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى شركة «تيسلا»، شركة «ماكليرين»، و«مازدا»، و«سوبارو»، وشركة «كندي» KNDI، الصينية التي تأسست عام 2013، وشركة «نيو» «NIO» (الصينية أيضا). وفي حين تتصدر تسلا قائمة الشركات الأكثر مبيعا، تليها في المراكز التالية، كل من شركة «بي. إم. دبليو» الألمانية، و«تي. واي. دي.» الصينية، و«فولكسفاجن» الألمانية، و«رينو» الفرنسية؛ فإن الشركتين الكوريتين «هيونداي موتورز»، و«كيا موتورز» التابعة لها، تفوقت (حتى النصف الأول من عام 2020) على نظيراتها الشركات اليابانية، فيما باتت الصين تزاحم كبرى الشركات الأمريكية والألمانية المنتجة لهذه السيارات. وهناك أيضا شركة أودي الألمانية، وشركة فولفو السويدية، وشركة نيسان اليابانية التي تذيلت قائمة الشركات العشر الأول الأكثر مبيعا للسيارات الكهربائية، مع أن سيارات هذه الشركة كانت قد اختارتها فرنسا لتكون نموذجا تجريبيا – ودعائيا - ناجحا خلال أيام انعقاد مؤتمر الأطراف ال 21 في باريس عام 2015، وأثبتت فعاليتها التي لا تختلف كثيرا عن فعالية سيارات الوقود الهيدروكربوني. إنما الأبرز والأكثر نمواً، كانت بطبيعة الحال، شركة «تسلا» الأمريكية التي باعت في الشهور الخمسة الأولى من 2020، أكثر من 126 ألف سيارة، بنمو بلغت نسبته 13.3%. لكن الشركات الصينية والكورية الجنوبية، اقتحمت السوق بقوة، وستشكل منافساً قويا لتسلا في أسواق التصريف العالمية.

الا أن هناك قراءة أخرى، وهي أن السوق يفيض بالمال الرخيص المتاح (بسبب صفرية أسعار الفائدة) وصائدي الفرص في السوق من صناديق استثمارية وصناديق تحوط وغيرها يبحثون عن «ملاذات آمنة» لتوظيف هذه الأموال وجني أرباح سريعة ومرتفعة، ليخلقوا بذلك فقاعة تحوم فوق رأس الجميع منتظرة الوصول إلى ذروة انتفاخها كي تعلن عن نفسها. ولا أدل على ذلك من تهافت كبار المستثمرين ومكتنزي الثروة، وراء شراء العملة الرقمية المشفرة «بيتكوين»، والذي تسبب في رفع سعرها إلى أكثر من 19 ألف دولار، مقتربة من ذروة ارتفاعها الذي بلغته في ديسمبر 2017، وهو 20 ألف دولار. وكل ذلك نتيجة ضيق مجالات توظيف رأس المال الذي صار الحصول عليه برخص التراب بسبب صفرية أسعار الفائدة، ما خلا الاستثمار في البورصات وفي العملات الالكترونية وفي بدائل الاقتصاد الجديد مثل السيارات الكهربائية.

الآن، فيما يتعلق بالمخاطر الاستثمارية المتصلة بالسيارات الكهربائية والعملة الرقمية «بيتكوين»، فإنها لا تختلف عن تلك التي صنعت فقاعة أزمة 2008، إن لم تكن أعظم أثراً بحسبان آثار الجائحة وما بعدها. من جديد يظهر «اللاعبون» أنفسهم الذين صنَّعوا تلك الفقاعة، ليمارسوا نفس الدور الذي قاموا به في عامي 2006 و2007، وهم مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي يشجع المضاربات المحمومة بأسعار فائدة قريبة من الصفر (تتراوح ما بين 0% و 0.25%، قال مديره العام قبل أيام إنها ستبقى عند هذا المستوى الخفيض لبضع سنوات قادمة بسبب فداحة تأثير الجائحة)، ومؤسسات مالية متخصصة في «ابتكار» أساليب إذكاء حمى التداول والمضاربة (على غرار شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة (SPACs)، أو، كما تُسمى أحيانا، شركات الشيكات المفتوحة على بياض – وهذه شركات تشبه صدف المحار الفارغة، التي يقوم رعاتها بجمع الأموال من المستثمرين ليستثمروها في الاستحواذ على شركات أخرى، عادة ما تكون خاصة. وهي تغري المستثمرين الذين تُجبى الأموال منهم، بتنبؤاتها المستقبلية المتفائلة لأصولها، وبتوفرها على ميزة مهمة تتمثل في إدراجها في سوق الأوراق المالية، بحيث تصبح الشركة التي تستثمر فيها على الفور شركة عامة، دون المرور بالكثير من المتاعب التي ترافق عملية الاكتتاب العام الأولي التقليدي)، إضافة، بطبيعة الحال، إلى جهات التنظيم الحكومية (Regulators) التي عادت لتغض الطرف عن هذه الممارسات الضارة، وترخي لها «حبل الضوابط» في السوق.

لذا فإن ما يحدث في البورصات العالمية، باعتبارها إحدى المرايا العاكسة لما يمور داخل الاقتصاد العالمي من تفاعلات، يعيد إلى الأذهان تماما ما كان يحدث عشية تلك الأزمة. وهذا يحمل أخطاراً ليس فقط لاقتصاد الولايات المتحدة وإنما للاقتصادات العالمية جمعاء. فكما نعلم، تتغذى الدورة الاقتصادية الأمريكية الجارية، على مصدرين رئيسيين للتمويل، مصدر خارجي، يتمثل في شراء حكومات الدول ومستثمريها السندات الحكومية الأمريكية التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية؛ ومصدر داخلي، يتمثل في اختصاص مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بوظيفة طباعة النقود من دون رصيد واقراضها لكافة مؤسسات الاقتصاد الأمريكي، وخصوصا مؤسسات الاقتصاد غير الحقيقي، أو الاقتصاد الورقي، وتحديداً مؤسسات وول ستريت من مصارف ومؤسسات مالية وصناديق عاملة في أسواق الأوراق المالية.

لذا، فإن إعادة انتاج سيناريو الركود العظيم لعام 2008، بذات جهات التنفيذ ونفس الأدوات، لهو بالتأكيد آخر ما يحتاجه الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي في ظروف الجائحة الوبائية، الصحية والاقتصادية والاجتماعية التي تضرب العالم طولا وعرضا. وثانيا، هو خيار يقع على تضاد تام مع التطور الطبيعي والتدريجي (المستدام) لوحدات الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي كوحدة واحدة.

* كاتب بحريني

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"