حرب صريحة على الفساد

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ أن فجّرت وسائل الإعلام التونسية قضيّة النفايات المنزلية التي تم توريدها من إيطاليا، وأوكار الفساد تتوجس؛ خشية أن تشملها عمليات الكشف 
والتحقيق التي باتت وسائل الإعلام التونسية تتسابق من أجل تحقيق السبق فيها، ومن أجل تمهيد الطريق أمام القضاء التونسي ليقول كلمة الفصل في مثل هذه الملفّات..
واضح أنّ ملفّ «النفايات الإيطالية» كما بات يُسمى في تونس، لم يكن سوى الشجرة التي تخفي الغابة كما يقال؛ لكن إزاحة هذه الشجرة، مكّن من فتح الطريق أمام وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة بكلّ مستوياتها، للانخراط الفعلي في حرب شاملة على الفساد، خاصة وأن تونس مصنفة كدولة تحت المجهر في منظمة الشفافية الدولية؛ حيث تم منح تونس 43 نقطة في مؤشر مدركات الفساد؛ لكن ما تعيبه المنظمة على السلطات التونسية، أنّ البلد لم يتقدم في مكافحة الفساد الذي ينخر أجهزة الدولة، ويدمّر الاقتصاد التونسي؛ نتيجة عدم قدرة السلطات على إنفاذ القانون. وتقول المنظمة في تقرير لها: إنّ هناك ضرورة لدعم استقلال القضاء ودعم الموارد البشرية في عمليات مكافحة الفساد، وتعزيز الدور الرقابي المجتمعي، حتى تنجح تونس في الحد من الفساد.
 والحقيقة أنّه ومنذ أن كشفت صحيفة «الأنوار» الأسبوعية عن ملف النفايات الإيطالية المستوردة، وما تبعها من تحقيقات ومن مساءلات قضائية وصلت حدّ إيداع وزير البيئة السجن، ووضعه على ذمة التحقيق في الملف، فإنّ هناك روحاً جديدة تتمثل في التسابق من أجل فضح عمليات الفساد، وكشف المتورطين فيها، علماً أن هذه الجهود تلقى دعماً كبيراً من الرئيس قيس سعيّد الذي يؤكد في كل ظهور إعلامي له ضرورة القطع مع الفساد.
 هذه الروح الجماعية المدعومة من إعلام يسعى للتخلص من نفوذ أصحاب التمويلات المشبوهة؛ تمثل فرصة كبرى للتونسيين؛ لتحقيق ولو شعار وحيد من الشعارات التي رفعت أيام الانتفاضة على حكم الرئيس الراحل بن علي «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق».
 صحيح أن البلد محدود المقدرات الطبيعية، وخاصة في مجال الطاقة؛ لكن ما يوجد على الأرض التونسية وفي باطنها قادر على تلبية احتياجات التونسيين 
والرفع من مستوى معيشتهم، من دون الحاجة إلى إغراق البلد بديون ثقيلة سيكون على الأجيال القادمة تحمّل تبعاتها. وهذه الهبّة الجماعية ستخلق حالة استنفار شاملة؛ للوقوف ضدّ الفاسدين أينما كانوا ومهما كانت درجة نفوذهم في البلد. وهناك أدلة في هذا المجال، فقد تمت إزاحة إلياس الفخفاخ، رئيس الحكومة السابق على خلفية وجود شبهات تضارب مصالح، وهو أمر لم يحدث سابقاً، كما أن قرار القضاء بإيداع وزير يمارس وظيفته السجن ورفع الحصانة عنه؛ يشكل خطوة أخرى مهمة وغير مسبوقة. فضلاً عن إيداع رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي السجن في تهم فساد يبحث فيها القضاء وهو صاحب الكتلة الأكبر في البرلمان؛ من حيث عدد النواب؛ يشكّل هبّة جدّية هذه المرة لوقف نزيف الفساد، وإعلاء قيمة القانون فوق الجميع، بعد أن حاول رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد شنّ حرب دون هوادة على الفاسدين، إلاّ أنه لم يستطع تنفيذ تعهداته؛ بسبب رفض الائتلاف الحكومي آنذاك مسايرته في تلك الحرب.
 كلّ الظروف باتت اليوم في مصلحة حكومة هشام المشيشي، فهي أمام فرصة تاريخية؛ لتحقق ما عجزت عنه كل الحكومات السابقة، وبإمكانها أن تستثمر هذه الوحدة الوطنية غير المعلنة في الحرب المشتركة على الفساد، والأهم هو وجود وعي شعبي داعم لكلّ خطوة في الحرب على الفساد. ذلك أنّ الإصلاح الجذري والتغيير الحقيقي الذي ينتظره التونسيون، يبدأ بخطوات جدّية في الحرب على الفساد. أما إذا رضخت الحكومة الحالية لابتزاز أصحاب النفوذ، فعليها أن تدرك أنها بصمت على شهادة وفاتها، ورّبما وضعت نفسها في موقف حرج؛ لأن أي تراجع الآن في هذه الحرب الشاملة، سيعني أن هناك تواطؤاً مع الفاسدين. 
ولا أحد في الحكومة يريد أن يلقي بنفسه في هكذا ورطة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"