«التتريك» بالأرقام

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

يقصد بمفهوم «التتريك» عملية الغزو التركي للأسواق العربية، سواء كان ذلك من خلال المبادلات التجارية، أو من خلال الغزو الثقافي المتمثل في استحواذ الأعمال الدرامية التركية على سوق الفضائيات العربية، أو من خلال دعم الجمعيات الخيريّة، ومن ورائها عمليات تمكين أطراف سياسية معينة من الاستحواذ على المشهد السياسي في عدد من الدول العربية.
 والتتريك هو مفهوم يطلق على عملية تحويل أشخاص ومناطق جغرافية من ثقافاتها الأصلية إلى التركية، بطريقة قسرية، أي بالإكراه، أو الإجبار، والقهر غالباً، وقد تمت هذه الممارسات إبان حكم الإمبراطورية العثمانية للبلاد العربية من مغربها، حتى مشرقها. وعليه، فإنّ التصريحات التي يطلقها الرئيس رجب طيب أردوغان، عن أنّه يطمح إلى إحياء إرث أجداده، وأنه يعود إلى الأراضي التي كانت ملك أسلافه، و يقصد طبعاً الأرضي العربية، هي تصريحات تثير التوجس من مسعى لا يخفى على أحد تقوده تركيا الأردوغانية، ويتم تنفيذه اعتماداً على مجموعات سياسية لا تخفي ولاءها «للباب العالي»، في أنقرة، وهذه الجماعات هي جماعات الإسلام السياسي، على وجه التحديد، التي تنتصب مدافعة عن المصالح التركية، وتتصدى بكل الوسائل لكل من ينتقد سياسة التتريك العائدة إلى الواجهة.
 ولو عدنا إلى الأرقام سنجد أن تركيا صدّرت بضاعة إلى الدول العربية بقيمة تتجاوز 30 مليار دولار، فيما لم تورد من هذه الدول إلاّ بضاعة بقيمة 13 مليار دولار، في أغلبها موارد طاقية، وذلك في عام 2019، بزيادة بلغت نحو 10 في المئة عن سنة 2018. وبالرغم من الآثار الجانبية لتفشي وباء كورنا، فإنّ غرفة التجارة التركية تؤكد أن الصادرات التركية للدول العربية لن يكون تراجعها كبيراً، بل إنّ هناك مشاريع كبرى قيد الدراسة لمزيد من توسيع الاستثمار، ودعم الشراكات الاقتصادية لتمكين الشركات التركية من الاستحواذ على مناطق نفوذ جديدة في جنوب المتوسط.
 وباعتماد الأرقام دائماً، فإنّ سياسة التتريك تتم من خلال غزو «درامي» للفضائيات العربية، حيث إنّ هذه الصناعة باتت تحتل المرتبة الثانية عالمياً من حيث الكمّ، أي من حيث مستوى الإنتاج السنوي للأعمال الدرامية. والحقيقة أن هذه الدراما استطاعت أن تغزو الفضائيات العربية المعروفة، وحتى تلك التي لا رواج لها سوى على المستوى المحلي، والتي تتمتع بتخفيضات مهمة عند الشراء، ما يعني أن الغاية من هذا التصنيع الدرامي ليس جانب الربح المالي- وإن كانت تلك الأعمال ترنو لبلوغ سقف المليار دولار في عام 2023- بل إنه بات واضحاً أنّ تلك الأعمال تخلط التجارة بالسياسة، وبالثقافة، وهي تخدم فعلياً المشروع الأردوغاني في المنطقة العربية، حيث تعكس الدراما التركية تفوقاً واضحاً للعنصر التركي على «أعدائه»، سواء من العرب، أو مّن يناصبون الأمة التركية العداء. إنّ هذا الغزو الثقافي «التركي» لسوق الفضائيات العربية، هو سلاح «القوة التركية الناعمة»، التي أراد من خلالها أردوغان تلميع صورة التاريخ العثماني، والتمهيد لاستقطاب فئات عربية واسعة ممّن لا يمتلكون الحسّ النقدي، وتهيئتهم لتقبّل الآخر التركي. والحقيقة أن الأتراك قد ذهبوا أشواطاً في عملية «التتريك» هذه، في ظل تراجع مفاهيم مثل القومية العربية، والوحدة العربية، التي استطاعت أن تؤسس في سنوات الستينات، والسبعينات، أفقاً عربيّاً مثّل هوية مشتركة من المحيط، إلى الخليج.
 الأتراك وجدوا في الربيع العربي الفرصة التي لا يمكن إهدارها، لاستباق الزمن، ولملء الفراغ الذي تركه سقوط الدولة الوطنية. وسرعوا عمليات السيطرة، والهيمنة الثقافية والتجارية، ومن حين إلى آخر الهيمنة العسكرية، من خلال التدخل المباشر في النزاعات العربية أو من خلال تقديم «مساعدات» عسكرية، هي في الأصل صكوك ولاء للسّيد التركي. و لنذكر أن صادرات السلاح التركية ارتفعت بنسبة 170 في المئة خلال السنوات العشر الأخيرة. ومن الطبيعي أن تكون الجيوش الحاصلة على تلك المساعدات، تدور في فلك القوة التركية الصاعدة. وبذلك تكتمل أضلع عملية التتريك، بين ما هو اقتصادي، وثقافي، وعسكري.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"