«الآخر».. إشكالية مفتعلة

01:01 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

منذ أكثر من قرنين، ولا هم للعقل العربي إلا محاورة الفكر الأوروبي، وهو ما ترصده بعض الأدبيات تحت عنوان أزمة الحداثة، والتي نتجت عنها إشكاليات عديدة، يأتي على رأسها ذلك المصطلح الذي قُتل بحثاً (الآخر) حتى تحول إلى أزمة انتهت إلى طريق مسدود، حيث توقف معظم مفكرينا مؤخراً عن الحديث حول أبعادها وتجلياتها. 

يمتلك «الآخر» ألف وجه وربما أكثر: هناك الآخر الاجتماعي والآخر الحضاري والآخر الثقافي.. ووصلت تلك الأدبيات في توجهاتها العامة إلى أن ثقافتنا تتحسس من الآخر. 

وأدلى بعض المفكرين العرب بآراء لا تختلف كثيراً عن الاستشراق التقليدي في هجومه على ثقافتنا، أما من تعاملوا مع مفردة «الآخر» منهم بموضوعية، فخرجوا علينا بنظرية الثنائية، فالعرب محكوم عليهم  وربما إلى الأبد  بالمراوحة بين نقيضين: التراث والعصر، الأصالة والمعاصرة.. وهي النتيجة التي رسخها مثلاً البحريني محمد جابر الأنصاري والمغربي محمد عابد الجابري، والمصري زكي نجيب محمود وعشرات غيرهم؛ أي أن محصلة ذلك النقاش الطويل حول مسألة الآخر، انتهت إلى نتيجتين: الأولى أن العرب لديهم مشكلة مع الآخر، والثانية عدم القدرة على دمج التراث في العصر للخروج بمركب حضاري جديد، فنحن إما غارقون في أصالتنا أو منبهرون بالغرب.

المتابع لهذه المشكلة المربكة يلحظ أولاً أنها خاصة بالنخبة، فالإنسان العادي يمارس حياته من دون أي أحساس بالتناقض بين ماضيه وحاضره، وحتى إن أعاقه الماضي نتيجة لبعض القيم السلبية، يتجه مباشرة إلى تغليب مصلحته الآنية، فالواقع يهيمن على البشر. 

صحيح أن هناك تأثير للثقافة، ولكن للعوامل الاقتصادية والسياسية، الكلمة الفصل في سلوكياتنا. 

إذا عدنا إلى الإشكالية في جانبها الفكري، وجدنا أنها جاءت إلينا مع الاستعمار الحديث للمنطقة، حيث لم نتطلع إلى اقتباس علوم الغرب وفنونه فقط، ولكننا اقتبسنا إشكالياته المعرفية أيضاً، فأوروبا ظلت لقرون مهجوسة بالآخر؛ مريضة به، تخوض حروباً دينية وعرقية تمكنها من تأسيس دول حديثة ترتكز على فكرة الأمة «نقية الهوية»، إن جاز التعبير، ونحن ننسى دائماً أن التنوع الذي نشهده في أوروبا الآن نتاج عدة عقود قليلة ماضية.

إن ملف التنوع في الثقافة العربية واسع وشديد الثراء، ومطلوب أن نفتحه الآن ونتأمل فيه بعمق، فالتنوع في ثقافتنا لا يقتصر على أديان وطوائف وأقليات وأعراق عاشت هنا لمئات السنين، ولكن كانت لدينا عدة أنماط أخرى من التنوع، لا تبدأ من تلك الآراء الفقهية المتعددة التي تجاورت بسلام، واعتبرها العلماء رحمة للناس، فضلاً عن لغة لانهاية لمفرداتها وتركيباتها البلاغية، وحتى حكايات ألف ليلة وليلة التي قرأ المئات من الباحثين دلالاتها المختلفة، وهو تنوع شمل كل شيء، ولم يعرف إلا التسامح مع «الآخر».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"