الأمم والدول في عقدها الجديد

00:50 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تستقبل الأمم والدول عقداً جديداً في ألفيتها الثالثة التي بدأت والعولمة الأمريكية تسيطر على مفاصل الاقتصاد والسياسية الدولية، وهي تدخل الآن مع حلول 2021 العقد الثالث والعالم يعيش أزمة صحية غير مسبوقة، دفعت المجتمعات إلى المطالبة باستعادة سيادتها، وبأن يكون اقتصادها الوطني ومنظوماتها الصحية أقل تبعية لتقلبات السوق الدولية التي شهدت احتكاراً غير مسبوق للمستلزمات الطبية مع بداية الجائحة. كما تستهل الأمم والدول عقدها الثالث والعالم يعيش تحوّلات جيوسياسية كبرى، ناجمة عن تراجع القوة الأمريكية، ونابعة من إصرار الصين على ترسيخ مكانتها كقوة كبرى تعمل على إحداث تغييرات حاسمة في معادلة التوازنات الدولية، مراهنة بذلك على أن تكون القوة الأولى في العالم قبل نهاية العقد المقبل.

 وهناك، في المرحلة الراهنة، حاجة ملحّة بالنسبة إلى الأمم لالتقاط أنفاسها، ولإعادة النظر في حساباتها، ولإجراء تقييم رصين لمسار الأحداث من أجل مواصلة المسيرة بثقة، وبفعالية، تسمحان بالاستجابة لتحديات المرحلة من خلال الأخذ في الحسبان كل الثوابت، والمتغيّرات. ويشير برونو ميجنو في كتابه «الثوابت الاستراتيجية أو لماذا لا تتغير استراتيجية الدول»، إلى أنه وخلف كل المتغيّرات فإن الرئيس الفرنسي، ديجول، ذهب إلى القول إن الأمم تظل العنصر الوحيد المستقر، والدائم، والطبيعي، الذي يمكن التعويل عليه على مستوى الساحة الدولية، ومثل هذه الثوابت الإاستراتيجية كان يملك بشأنها كل من ديجول، ونابليون، حدساً عقلانياً، بخاصة عندما كان يؤكّد هذا الأخير أن سياسة دولة ما تتحدّد انطلاقاً من جغرافيتها؛ وقد أخطأنا، مثلما يقول مينجو، عندما استندنا خلال عقود سابقة إلى فكرة كانت تدّعي أن الأمم، والقوميات هي منبع كل الحروب، والمآسي.

 كما أخطأنا عندما اعتقدنا أن أيام القوميات أصبحت معدودة، وأن مفهوم الدولة الوطنية بات متجاوزاً، وسيتراجع ليُفسح المجال لسيادة الإنسان الكوني المتحرِّر من جذوره، والمرتبط بحكومة عالمية قادرة على تحقيق السلام الدائم. فقد أظهرت تطورات الأحداث عدم واقعية الطرح الذي تبنّاه الفيلسوف كانط بشأن مشروع السلام الدائم، الذي سعى هابرماس إلى الترويج له، وقادت التحوّلات العالمية إلى التخلي عنه مع العودة القوية للقوميات الحريصة على التمسك بالسيادة الوطنية من واشنطن، إلى بكين، ومن موسكو إلى لندن، ومن أنقرة إلى نيودلهي.

 ليتضح بذلك للجميع، أنه لن يكون هناك وجود للدولة في غياب الأمة، لاسيما في زمن الأوبئة التي شكّلت فيها الدول الوطنية الملجأ الأخير للمواطن، وليتأكد الجميع أيضاً، أن مهمّة حماية المواطنين ستظل من مسؤوليات الدول، ولن تكون أبداً شأناً كونياً يخترق الحدود، والأوطان، لأن الرعاية الصحية لا يمكن أن توفرها التجمعات الإقليمية، والمنظمات الدولية؛ فالوطن الذي تشيِّده الأمم، هو كما يقول مينجو، المكان الذي يحتضن كل أشكال التضامن الطبيعي، والثقافي، والاجتماعي، وكل ما يتصل بالرعاية التي يكون الإنسان في أمسِّ الحاجة إليها عندما يُصاب بالعجز، وتوصد في وجهه كل الأبواب، وعليه، فإنه لو لم يكن للشعب الصيني دولة وطنية قوية لحصدت الجائحة أرواح الملايين.

 لا يمكن إذاً، لكيان سياسي آخر غير الدولة الوطنية أن يُعبِّر عن الروح الحقيقية لهوية الشعوب، ومن باب المغالطة، كما كان يؤكِّد ديجول، أن نتحدث عن الأنظمة السياسية عوض الحديث عن الشعوب، فالنظام الشيوعي لم يستطع أن يغيِّر هوية الشعب الروسي، لأن العناصر التاريخية، والجغرافية، والثقافية، لها دور حاسم في تحديد خصوصيات الأمم، الأمر الذي أشار إليه تشرشل عندما قال: «في إنجلترا كل شيء مسموح به، باستثناء ما هو ممنوع. في ألمانيا كل شيء ممنوع باستثناء ما هو مسموح به. في فرنسا كل شيء مسموح به بما في ذلك ما هو ممنوع، وفي الاتحاد السوفييتي كل شيء ممنوع بما في ذلك ما هو مسموح به».

 وبالتالي، فإنه وبعد أن أصبحت السيادة الصحية والسياسية والاقتصادية للأمم والدول مسألة مصيرية، فإنه يتوجّب على القوى الدولية والإقليمية، ومعها كل الدول الفاعلة أن تضع ضوابط لطموحاتها، ولإراداتها المتعلقة بالقوة من أجل تجنب العنف والمواجهة التي يمكنها أن تهدّد مستقبل البشرية وتؤدي إلى ضياع كل ما تم تحقيقه من تقدم، ورفاهية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"