الاستثناء الأمريكي والنظام الدولي

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

إن ما حدث، ويحدث في الولايات المتحدة الأمريكية من صراعات ومواجهات سياسية على خلفية الانتخابات الرئاسية الأخيرة المثيرة للجدل التي أوصلت جو بايدن إلى سدّة الحكم، يؤكد أن هذا البلد كان، وسيظل استثنائياً، ليس فقط بالنسبة إلى نخبه المتنافسة التي لم تتمكن من اقتلاع الرئيس المنتهية ولايته ترامب، إلا بصعوبة بالغة، ولكن بالنسبة أيضاً إلى حلفائه وخصومه الذين أصابتهم الدهشة، وربما شعر الكثير منهم بالشماتة، وهم يرون أقوى دولة في العالم وهي تجتاز امتحان الانتقال التقليدي للسلطة بصعوبة بالغة، وبأثمان سياسية وأمنية مرتفعة، ستكون لها تداعيات سلبية على التماسك الداخلي للمجتمع الأمريكي.

 وربما يكون الاستثناء الأمريكي الأبرز هذه المرة، متعلقاً بصورة أمريكا المهتزة والمخدوشة على المستوى الدولي، وبمستوى شرعية الرئيس الأمريكي الجديد في الداخل الأمريكي، في مواجهة قاعدة شعبية عريضة من الناخبين البيض، التي يرفض قسم كبير من أفرادها التنازل عن امتيازاتهم التاريخية لمصلحة الترتيبات السياسية التي تريد الدولة العميقة في واشنطن فرضها على المجتمع والتي كانت قد بدأت مع انتخاب أول رئيس أسود في تاريخ البلاد سنة 2008، والتي قد تفضي أيضاً إلى إيصال أول امرأة من أصول ملونة، وهي كامالا هاريس، إلى أرفع منصب في الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي تشير معظم التوقعات إللى أن بايدن لن يخوض غمارها لأسباب تتعلق بسنه، وبوضعه الصحي.

 ويمكن القول إن الاستثناء الأمريكي، وقبل أن يتعرّض لتشويهات الشعبوية الترامبية، ظل يمثل في أعين المدافعين عنه عنوان قوة وعظمة الولايات المتحدة، كما يشير إلى ذلك باسكال جوشون، فقد اعتبر جيفرسون أن أمريكا تمثل أكبر أمل للعالم، وذهب الفيلسوف إميرسون إلى أن أمريكا هي بمثابة أعظم خير قدمه الرب للعالم، وهي آخر وأفضل أمل فوق هذه الأرض بالنسبة إلى لينكولن، وهي الأمة المثالية الوحيدة في العالم في أعين ويلسون، كما أنها هي الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، كما زعمت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الخارجية في إدارة بيل كلينتون.

 ولعل هذا الاستثناء الذي يُترجم مستوى التقييم المبالغ فيه للذات ويرمز أيضاً إلى أعلى درجات النرجسية والشوفينية الأمريكية، هو الذي جعل مشاهد العنف في مبنى الكابيتول بواشنطن، أمراً ممكن الحدوث، ومُعبِّراً عن اختلال في منظومة القيم الأمريكية، بدأ يصعد فجأة إلى السطح.

 وبالتالي، فإن هذا الاستثناء المتعلق بتمجيد الذات المتجاوز لكل ما هو متعارف عليه من شعارات قومية في كل دول العالم، والذي تحوّل إلى ما يشبه الطقوس والفروض الدينية التي تدفع النخب السياسية الأمريكية إلى الإيمان بأن بلدها يحمل على عاتقه مهمة كونية مقدّسة يتوجّب عليه الحرص على إنجازها؛ أثّر، وسيؤثر بالدرجة نفسها في منظومة العلاقات الدولية، وفي تماسك وانضباط النظام الدولي الذي شهِد هزّات عنيفة خلال السنوات الماضية.

 وعلى الرغم من هذا الاستثناء الأمريكي الذي يرتبط بالسّعي المفرط للمحافظة على قيادة العالم، وبالعنف السياسي الداخلي غير المألوف في الديمقراطيات الغربية، إلا أن حدث الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة الذي أفضى إلى وصول بايدن إلى الحكم، استطاع أن يُشكّل بارقة أمل بالنسبة إلى معظم المراقبين الذين ينتظرون من الرئيس الجديد أن يعمل على إزالة التوتر والتصعيد في العلاقات بين الدول الكبرى من أجل بناء نظام عالمي أقل فوضوية من النظام الذي أفرزته الشعبوية الترامبية التي رفعت شعار «أمريكا أولا»، وتسبّبت بزعزعة أسس العلاقات الدولية.

 ومن الواضح، أنه وبصرف النظر عن العوامل المتعلقة ببنية الحكم وبهرمية المجتمع في الولايات المتحدة وبالخلل الموجود في نظامها الانتخابي، فإن العالم الذي عايش سنوات عصيبة من سياسة ترامب الخارجية القائمة على الابتزاز والمغامرة، يتطلع الآن إلى عودة التوازن المفقود في النظام الدولي الذي تمثل الولايات المتحدة الأمريكية حجر الزاوية فيه؛ ومن ثم فإن الاستقرار السياسي والتعافي الاقتصادي في أمريكا باتا يمثلان مصلحة دولية مشتركة، في انتظار ما ستتخذه الإدارة الجديدة من قرارات قادرة على قيادة ما يصفه بايدن بالعالم الديمقراطي، ويمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في العلاقات مع الصين، وروسيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"