عادي

أرض لم يطأها أحد

22:27 مساء
قراءة 5 دقائق
1

القاهرة : مدحت صفوت

منذ تطوير شبكة الويب العالمية، أثّر انتشار الوسائط الرقمية والاتصالات في الحياة اليومية، على كل جانب من جوانب السفر المعاصر، وبينما في أوائل حقبة التسعينات، كانت البيئة الرقمية تُصوَر كثيراً على أنها عالم منفصل يجري إدخاله من خلال شاشة الكمبيوتر، فإنها تعمل الآن كامتداد لأجسادنا، وأصبح عالمنا مشبعاً بالطرق المتنافسة لتوصيل المعلومات والخبرات الحياتية المتباينة.

مع هذا التطور، ومثلما تغيرت اتجاهات السفر وطرائقه، تغيّر عالم أدب الرحلات، فالسفر في الماضي كان تجربة باهظة التكاليف، والرحلات معدودة ومتباعدة، وغير متاحة للجميع، الآن أصبح السفر سهلاً، وبأسعار معقولة نسبيًا، ليرى كل منا العالم بطريقته، وخلال هذه السفريات ندون التفاصيل ونسجل الملاحظات، ونوثق الصور ولقطات الفيديو المرئية، وأتيح لكل مسافر أن يشارك تجاربه في لحظة معايشتها مع متابعيه من أيّ مكان في العالم.

إذاً، ماذا يعني هذا بالنسبة إلى كتاب الرحلات حول العالم؟ وأي خبرة لا يزال القراء يرون أن بعض المؤلفين قادرين على جلبها؟ ما الذي يمكن أن يطرحه صحفيو السفر على طاولاتهم في عالم يمكن لأي فرد أن ينقل ما يشاء من معارف موثقة؟

أسئلة ليست بجديدة، فمنذ بداية الألفية ولا تزال المراكز المتخصصة والأكاديمية تناقش جنساً أدبياً يرى البعض أن التكنولوجيا تهدده، الأمر الذي دفع مهرجان الكتاب والقراء أوبود في عام 2013 بمدينة بالي بإندونيسيا إلى طرحه القضية كموضوع رئيسي للمهرجان، ثم في عام 2016 نشرت المحاضرة في قسم السياحة بجامعة موناش الأسترالية مادلين بلير، كتبها «كتّاب أدب الرحلات في العصر الرقمي»، كما خصصت جامعة كمبريدج في موسوعتها «تاريخ كامبريدج لأدب الرحلات» 2013، مبحثاً مستقلاً عن مستقبل تقنيات هذا اللون في ظل التطور التكنولوجي الهائل وانتشار مواقع السفر وتقييم الرحلات .

سجل حافل

نعود للوراء، ونشير إلى أن الإنسان كائن مرتحِل، وتاريخ الإنسانية سجل من محاولات التعرف، ثم السيطرة على العالم الخارجي، من حوله، وقد قاوم أولاً القوى الحيوانية التي تحول بينه وبين هذه السيطرة، ثم القوى الإنسانية، فتكونت القبيلة، والأمة، واندفعت من إقليمها إلى الأقاليم المجاورة تكتشف آفاقاً جديدة. إذاً، في البدء كانت الرحلة، ومع معرفة التوثيق بدأت البشرية تسجل وتدوّن مشاهدها، وعرف اليونانيون مجموعة من الرحالة أشهرهم «هيرودوت» الذي زار مصر، وقبرص، وفينيقيا، وآشور، وإيران، وتوغل في الشمال إلى البوسفور، وأودع مشاهداته في هذه الزيارات أو الرحلات في تاريخه الكبير.

يعقب هيرودوت الجغرافي اليوناني باوسانياس، في القرن الثاني قبل الميلاد، ويعد رائد فن تدوين الرحلات في الأدب الغربي. وجدير بالقول أن اليونانيين سبقوا المصريين القدماء، إذ سجل ملوك مصر رحلاتهم في آسيا، وعلى جدران معبد الدير البحري في مصر العليا تصاوير بديعة لسفن الملكة حتسبشوت وهي عائدة من بلاد «بونت» في الجنوب.

وفي القرن الثاني عشر، كتب مؤرخ العصور الوسطى جيرالد الويلزي، عدداً من الرحلات أبرزها رحلة عبر ويلز (1191)، ووصف ويلز (1194)، ثمّ رحلات التاجر والمستكشف الطلياني الشهير ماركو بولو، وكتاباته عن عبور آسيا بين عامي 1271 و1295، والتي يعدها الغربيون واحدة من الأعمال الكلاسيكية لأدب الرحلات.

ومن أقدم السجلات المعروفة للاستمتاع بالسفر وتدوين الرحلات، قصة صعود الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بترارك (1304–1374)، بصحبة شقيقه جيراردو، جبل فينتوكس البالغ طوله نحو 6 آلاف و263 قدماً في 26 إبريل/ نيسان 1336، وهو جبل مستدير شاهق يطل على منطقة بروفانس في جنوب فرنسا.

أمانة علمية 

العرب بدورهم ليسوا بعيدين عن المضمار، ويتفق الدارسون لتاريخ أدب الرحلات العربية، في تكوين الجغرافيين العرب مدرسة خاصة بهم، تتسم بطابع الأمانة العلمية باعتمادها الرحلة سبيلاً في توثيق المعلومات، فعرّفوا العالم، شرقه وغربه، في أقطار الدولة الإسلامية خاصة، ووصفوها أحسن الوصف وأدقه، وأرسوا بذلك قواعد الجغرافيا الوصفية والدراسة الميدانية التي تطورت في ما بعد.

وتتنوع الأسماء العربية بدءاً من سلام الترجمان ورحلته إلى حصون جبال القوقاز عام 227 ه، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق، للبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج، ثمّ المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي، والبيروني (ت 440 ه)، وتحفته المسماة «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، التي اعتبرت نموذجاً فردياً، وتُعد وثيقة تاريخية هامة تجاوزت الدراسة الجغرافية والتاريخية إلى دراسة ثقافات مجتمعات الهند قديماً، ممثلة في لغاتها وعقائدها، وعاداتها، مروراً بابن جبير، وكتاب «رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك» المعروف ب«رحلة ابن جبير» وصولاً إلى درة الكتابات العربية القديمة في الرحلات ابن بطوطة، ورحلته عام 725 ه من طنجة بالمغرب إلى مكة المكرمة، وظل زهاء تسع وعشرين سنة يرحل من بلد إلى بلد، ثم عاد في النهاية ليملي مشاهداته وذكرياته في كتابه «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».

التدوين الاحترافي

العالم يتغير باستمرار، والطريقة التي نسافر بها تتغير، وكتاب أدب الرحلات يتغيرون أيضاً، ففي الماضي كان الكتاب معنيين بالبحث عن تجارب البشر في الأراضي غير المكتشفة، أما في الوقت الراهن، فيمكن للجميع تقريباً، السفر، وشركات الطيران تقدم العروض تلو العروض، والرحلات منخفضة التكاليف، هنا يقول كاتب أدب الرحلات الإندونيسي الشهير أوجستينوس ويبوو «إذا أصرّ كاتب رحلات على أن يكون أول شخص يزور مكاناً ما، فلن يفلح، لا يوجد مكان بِكر لم يمسه بشر».

ورغم أن كتاب الرحلات المعاصرين يعملون في وقت تحولي مع التطور السريع لتقنيات الإنترنت، وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات والكتب الإلكترونية، فإن ثمة فجوة بين ما يطرح أدبياً عن الرحلة والدراسات الأكاديمية والنقدية عن جنس أدبي يعرض تاريخه إلى 2500 سنة على الأقل، ولا نكاد نذكر عربياً دراسة تتعلق بديناميكية البيئة الراهنة لأدب الرحلات وعلاقتها بالتكنولوجيا.

غربياً، أجرت مادلين بلير مقابلات طويلة معمقة مع 47 مؤلفاً متنوعي الخلفيات الأدبية والفكرية، ويعتنون بتدوين السفر وكتابة الدليل والصحافة، ومعظمهم من أستراليا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وقد كشفوا في حواراتهم عن تجاربهم مع الكتابة لمدونات الرحلات ومواقع التواصل بدلاً من نشر الكتب مباشرة، مشيرين إلى تفاعل الكثير مع القراء عبر الإنترنت، ما شجّع الكتاب على بناء أو تعزيز هذه العلاقات، وقد وفر العصر الرقمي مساحة لكتاب الرحلات لتشكيل نسخة عبر الإنترنت من أنفسهم. وتقليدياً، اعتمد أغلب مؤلفي كتب الرحلات على المحررين والناشرين لتعريف القراء بأسلوبهم أو لتطوير «علامتهم التجارية» والإعلان عن أسمائهم، بينما أصبح المؤلفون الآن متخصصين في وسائل التواصل الاجتماعي والترويج الذاتي.

وسط كل هذا، عبّرت أقلية من المؤلفين عن حذرها في ما يتعلق بفورية وسائل التواصل الاجتماعي، التي شعروا بأنها لا تسمح بالتفكير الكافي، بالتالي قد تؤثر في جودة الأدب المكتوب، فضلاً عن أن مواقع تدوين السفر تزود الناشرين بمحتوى مجاني، ما يشعر بعض الأدباء، الأكثر احترافاً، خاصة، بأن الفضاء الإلكتروني يقلل من قيمة مهنتهم.

مهمة إنسانية

التكنولوجيا لم تغير في طبيعة أدب الرحلات فحسب، لكن يمكن القول بشيء كبير من الاطمئنان إن التطور التقني أدى إلى تغيرات واضحة في السفر ذاته، فلم يعد من الضروري زيارة وكيل السفر المحلي لقضاء عطلة، فالمسافرون الأكثر ميلاً إلى المغامرة والمسلحين بدليل إرشادي جيد، ومراجعات غيرهم على مواقع الإنترنت، يستطيعون وضع جدول أعمال سفرهم، بعد أن يحجزوا تذاكر السفر وفنادق الإقامة، وربما الانتقالات الداخلية عبر موقع واحد وبضغطة زر وحيد.

ومع هذا التطور، يرى محرر الكتب في ناشيونال جرافيك، دون جورج، أنه ومع هذا التطور، فلا تزال مذكرات السفر وأدبيات الرحلات في قلب قوائم الأكثر مبيعاً بالنسبة لقوائم الكتب غير الخيالية Nonfiction، «فكتب الرحلات تختلف عن المدونات والتعليقات والمعلومات المعلقة في غير سياق، فالتدوين المفتوح يرى في الرحلات معالم، بينما لا يزال كتاب أدب الرحلة ينظرون للسفر بوصفه التجارب التي تغير الحياة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"