التخلص من العقل

00:24 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يتركز النقد الموجّه لمواقع التواصل الاجتماعي غالباً حول مسألة المؤثرين وأدوارهم، وما إذا كانوا يقدمون شيئاً حقيقياً يفيد متابعيهم، ولكننا نادراً ما نقرأ رؤى تحليلية لتلك المواقع، على نحو ما فعل بعض الفلاسفة والمفكرين مع وسائل الإعلام التقليدية، وعلى رأسها التلفزيون.

ربما يعود السبب إلى كثرة تلك المواقع وتغيرها اللحظي واستخدامها من قبل ملايين البشر، وموضوعاتها العصية على المتابعة والتصنيف في أطر واضحة.

إن العقل في أحد معانيه وأبسطها وأكثرها واقعية يستوعب الأشياء من حوله في نماذج محددة؛ الأمر الذي لا ينطبق على تلك المواقع التي تتسم بالتشظي. عندما نفتح الصحيفة أو نشاهد التليفزيون، أو نطالع كتاباً ما، أو حتى إذا كنا ندرس في أحد مراحل التعليم، فإننا في كل هذه الأفعال نمارس نشاطاً ذهنياً يقوم على الترتيب والنظام، وإدراك أن أية مقدمة لا بد أن تؤدي إلى نتيجة معينة؛ أي أن عقولنا بطبيعتها، بعيداً عن التأثيرات الأيديولوجية، تتعود في كافة مراحلنا العمرية، على التعاطي مع العالم وفق المنطق، وهو ما نفتقده في تلك المواقع، حيث لا وجود إلا للعشوائية. ليس هذا فحسب، فتلك المواقع تؤدي أيضاً إلى فوضى في المشاعر، عندما ننتقل بسرعة من إحساس إلى آخر ببساطة من دون لحظة توقف لتأمل طبيعة هذا الإحساس، وبالتالي فنحن نعيش على مدار الساعة الواحدة العديد من المشاعر المتضاربة التي لا يستغرق بعضها إلا ثواني معدودة.

بعض المدافعين عن تلك المواقع، يتحدثون كثيراً عن تميزها في نقاط معينة، فهي تسمح للمتلقي بحرية الاختيار بين طيف واسع من الرؤى والاتجاهات، فضلاً عن حرية التعبير تجاه ما يقدم له، كما أنها منحت كثيرين القدرة على «الإبداع»، والواقع أنها كلها أحاديث أثبتت الأيام أنها بحاجة إلى المراجعة، فبعد فترة من الحضور في هذه المواقع، تؤكد أي نظرة موضوعية أنه لا تنوع أو تجديداً، حيث سيصاب أي إنسان طبيعي بعد فترة بالملل، ولا «إبداع». فالجميع يستنسخ الجميع، أما حرية التعبير فوهم، هذا إذا تغاضينا عن معظم التعليقات التي تفتقد إلى أدنى حد من المعلومات التي تمكنها من النقاش حول موضوع ما، إضافة إلى الإساءة بالكلمات والصور.

في فترة من الفترات انتقد الغرب إعلام الكتلة الاشتراكية، ودول العالم الثالث، بأنه إعلام موجه يهيمن على العقل ويخلو من الحريات، ويغيب عنه التنوع، وأظهرت كثير من الأدبيات أن ما أطلق عليه «الإعلام الحر» وقتها، لم يكن أكثر من إعلام موجه، ولكن بقفازات حريرية. 

ويبدو أن الإعلام فائق الحداثة أصيب بالملل من مسألة «السعي للهيمنة على العقل»، فقرر التخلص من العقل نفسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"