عادي

المسرح الراهن في مرآة التاريخ

23:25 مساء
قراءة 7 دقائق
1

الشارقة: عثمان حسن

منذ البدء كان الفن المسرحي على تماس مع التحولات التاريخية الكبرى التي تجري في العالم، وفي هذا المقام يمكن النظر إلى أعمال؛ بل إبداعات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، نموذجاً لهذا المنحى، وهو الذي شكلت مؤلفاته المسرحية علامة فارقة في تاريخ «أبو الفنون»، هذه الأعمال التي تأتي منسجمة مع قناعات وإيمان سموه، بدور المسرح في النهضة والتقدم، وهذا الفهم يعتبر جزءاً لا يتجزأ من فكر وثقافة صاحب السمو، حاكم الشارقة، عاشق المسرح، وصاحب المشروع الثقافي والحضاري الكبير.

من هنا، يعتبر المسرح ركناً أساسياً في مشروع سموه الثقافي، وهو الذي يُنظر إليه في العالم العربي وفي العالم، بوصفه قامة كبيرة من خلال كل ما قدمه من أعمال مسرحية ذات قيمة كبيرة، مثل: شمشون الجبار، النمرود، القضية، هولاكو، الواقع صورة طبق الأصل، داعش والغبراء، علياء وعصام، الحجر الأسود، وغيرها الكثير. 

ففي معظم هذه الأعمال كان التاريخ حاضراً بقوة، وأكثر من ذلك فقد كان سموه مبدعاً في توظيف اللحظة التاريخية؛ بل كان ذكياً جداً في تعامله مع هذا الموضوع.

ففي كتاب «اللحظة التاريخية في مسرح سلطان القاسمي» للكاتب العراقي ظافر جلود، الصادر عن منشورات القاسمي، يشير الكاتب إلى أن استثمار سموه للتاريخ كان ذكياً، باعتبار هذا التاريخ مستودعاً لا ينضب من المعاني والدلالات العميقة، وكان سموه من دون شك، عميقاً في طرح الأسئلة، واستنباط الرسائل التي صنع منها أرشيفاً من الفكر والجمال عبر القيمة الأدبية والمعرفية، ومعمارية البناء والأمكنة والسرد المسرحي.

دقة وموثوقية

بهذه الكيفية، كان التاريخ؛ بل كانت الوقائع والأحداث والشخصيات في مسرح سموه، على جانب كبير من الدقة والموثوقية، ولنا على سبيل المثال أن نقرأ «الإسكندر الأكبر» التي اهتمت بالتاريخ القديم، حيث اختار سموه ببراعة، بوصفه كاتباً مبدعاً، لحظة سقوط وموت هذا الفاتح الأكبر الذي دانت له الدنيا والعالم وإمبراطوريات زمانه، فحارب حتى وصل إلى تخوم الهند، هزم فارس وحارب الروم. والعمل المسرحي عبارة عن قصة تاريخية تتناول حياة الإسكندر الأكبر، حيث قام سموه، بتوظيف هذه الحادثة مستخدماً العديد من الإسقاطات على آسيا والمنطقة في الوقت الراهن، لقد استثمر سموه التاريخ ليضيء على الحاضر والحياة المعاصرة في المنطقة، بحروبها وآلامها وطموحاتها في عصر العولمة التي بدلت الأحوال في كل شيء.

يقول سموه في مقدمة «الإسكندر الأكبر»: «بعد قراءاتي لأعظم ما كتب في التاريخ عن الإسكندر الأكبر، استخلصت هذه المسرحية لتكون صورة حية لصراع القوى قديماً وحديثاً في كل مكان. إن مادة هذه المسرحية موثقة توثيقاً صحيحاً من الكتب الملحقة عناوينها في آخر المسرحية».

وفي الإطار نفسه، فإن من يتابع مسرحية «القضية» التي تتناول فترة تاريخية في غاية الأهمية، يكتشف أيضاً أنها تستلهم التاريخ العربي الإسلامي، وسموه، يؤكد في بداية هذا العمل الكبير التشابه بين الواقع الأليم الذي عاشته الأمة العربية في الماضي، وما تعانيه اليوم، وهي ذات الرؤية التي خلص إليها في مقدمة مسرحيته «هولاكو».. وكل ذلك ليقدم عبرة بأن ما جرى للأمة العربية في الماضي، يشبه ما يجري لها الآن، وأن أحداث الماضي تتمثل في أحداث الحاضر الأليمة.

رؤية ثاقبة 

لقد أكد صاحب السمو، حاكم الشارقة، دوماً أهمية المسرح، ويتجلى ذلك في كثير من كتاباته وأقواله، ومن خلال عديد أقواله في اللقاءات والمهرجانات سواء المحلية أو العربية وحتى العالمية، وهي رؤية ثاقبة لرجل مثقف وحاكم انشغل بالمسرح بحثاً وثقافة وتعمقاً، فكان هاجسه في كل ما صدر عنه من أقوال وأحاديث ومبادرات يتناغم مع تلك الرؤية. ولعل تلك الجملة الكبيرة في معانيها «نحن كبشر زائلون ويبقى المسرح ما بقيت الحياة»، تمثل أجمل ما يمكن وصفه بشأن المسرح ودوره في الحياة، وتمثل بالقوة ذاتها، جمال ما في العبارة من رؤية وحدس يحتاجه الفنان المسرحي، بمثل ما يحتاجه البشر على اختلاف ثقافاتهم ومكانتهم.

وعودة إلى الأعمال المسرحية التاريخية لصاحب السمو، حاكم الشارقة، فقد كان توظيفه للتاريخ يهدف لإحداث مقاربة ثقافية ومعرفية، فهو يكتب كمبدع، وإذا كان يستل من التاريخ حوادثه ووقائعه، فإنه يوظف هذه الحوادث والوقائع لكي نتعلم منها، ونستقي من تداعياتها العبر، فهي إذاً رؤية تسلط الضوء على الإخفاقات ومكامن الخلل، وتقدم العبر والدروس، تأخذنا إلى الحاضر المر، لمواجهته، ولكي نتعلم من الماضي ونختبر قوتنا في ضوء ما عشناه، وهذا ما نجده حاضراً في مسرحية «طورغوت» التي كتب عنها «يمكن قراءتها في ضوء الراهن العربي لتصبح تناصاً جديراً بالتأمل، وتكون قراءتها متعة فكرية حقيقية لما سوف تثيره من أفكار».

و«طورغوت» تستقي وقائعها من أحداث وصراعات القوى في حوض البحر الأبيض المتوسط، وتقع أحداثها في تونس، وكيف استطاع القائد البحري «طورغوت»، تخليص موانئ ومناطق عربية في الشمال الإفريقي من قبضة المستعمر ليتحول إلى بطل أسطوري تناقلت سيرته كثير من الروايات والحكايات الشعبية في بلاد المغرب العربي وفي تونس خاصة.

شخصيات ورموز

كان صاحب السمو، حاكم الشارقة، مخلصاً للتاريخ والوثيقة التاريخية، وهذا ما يؤكده على سبيل المثال، الدكتور هيثم الخواجة في كتابه: «مسرح سلطان بن محمد القاسمي.. سؤال الواقع والحياة» الصادر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ويتناول فيه أعمال سموه المسرحية بالدراسة والتحليل. 

قراءة المستقبل

في مسرحية النمرود يقف القارئ على حجم البحث المبذول في قراءة الماضي، من أجل التنبيه على الحاضر، من خلال شخصية أسطورية تاريخية معروفة في الذاكرة وهي شخصية «النمرود» الذي عاش في بابل القديمة. والعمل يقدم إسقاطات على الحاضر، كما هو شأن المسرح التاريخي عند صاحب السمو، حاكم الشارقة، فالنمرود كان متجبراً، ادعى الربوبية، وساد على الشعب قمعاً وترهيباً، وأكثر من ذلك فقد أصابه جنون العظمة وتحدى الألوهية، لكنه في نهاية المطاف ينتهي نهاية مأساوية يستحقها، حين يتسلط عليه البعوض، فيقضي على جيشه الذي كان يتأهب لمحاربة جيش آخر، فيهب أفراد الشعب للانقضاض على النمرود، فينهون أسطورته الغاشمة والمتسلطة والمتجبرة، كأسوأ ما عرفته البشرية.

في «النمرود» لجأ صاحب السمو، حاكم الشارقة، إلى استخدام الأسطورة ليكشف الحاضر والمستقبل، مسلطاً الضوء على النهاية البشعة لكافة أشكال الاستبداد والظلم، وأن التعطش للسلطة، هذا الذي يصبح مرضاً خبيثاً، لا بد أن يفتك بصاحبه، ذلك لأنه ضد المصلحة العامة، ولا يمثل سوى صورة عن الطمع الذاتي.

رؤية إبداعية

وقُدمت كثير من القراءات في المسرح التاريخي لصاحب السمو حاكم الشارقة، وكان مجملها يؤكد أن توظيف سموه للتاريخ، قدّم في معظم أعماله رؤية فنية مبدعة. فمن حيث المبدأ شكلت المادة التاريخية عند سموه، خطاباً جاداً ينفذ إلى التاريخ ليجعله دليلاً على تفكيك الحاضر، فالحادثة التاريخية لديه ليست غاية في ذاتها، بقدر ما هي وسيلة لفهم الحاضر، بحيث يضع مرآة التاريخ مقابل مرآة الواقع، وهذا ما عبرت عنه الباحثة الدكتورة بهيجة إدلبي، حيث تقول: «عبر هذا التقابل تنمحي المسافة الزمنية، حيث تتقابل الحياة والأفكار بظلالها، وبالتالي ترى الكائنات صورتها بعد أن تأوّلت بالفكرة، لتنهض الرؤية المسرحية وتفرد ظلها في ذاكرة المتلقي والمشاهد، ما يتيح للنص أن يدخل في عملية إعادة إنتاج للتاريخ عبر أدوات الحاضر، كما يتيح فضاءات واسعة للتأويل يشترك فيها المتلقي، عبر إعادة إنتاج النص والعرض إنتاجاً متعدد الرؤى بعدد المشاهدين».

قضايا الإنسان

صاحب السمو، حاكم الشارقة، مهموم بقضايا الإنسان في كل ما قدمه من أعمال مسرحية؛ بل إن سموه، أكد في أكثر من مناسبة هذا المسعى المهم، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد عن سموه خلال حفل افتتاح مهرجان المسرح الخليجي في دورته الثالثة عشرة في قصر الثقافة في الشارقة، حيث قال: «إن المسرح يطرح ويعكس قضايا الإنسان، بكافة تجلياتها». وفي هذا الإطار يمكن قراءة النصوص المسرحية لسموه التي تمتاز بالتنوع في طروحاتها الفكرية، حيث لا يقف التاريخ عائقاً دون استنباط الحكايات التي تشكل أرضية لتجعل الحكاية مهاداً قوياً لينطلق منه سموه باتجاه الواقع يناقش قضاياه الاجتماعية والإنسانية والقومية، بأسلوب غير مباشر وبرؤية صادقة تعبر عن عشق للعروبة والحياة الكريمة والعقيدة.

وهذا ما لفت إليه الناقد د. هيثم الخواجة الذي اعتبر أن هذه الرؤية الواضحة، إنما تعبر أيضاً عن كره سموه للظلم والتجبر والفساد وتضخم الذات، ومن هنا تبرز الاتجاهات الفكرية في مسرح سموه، ويأتي في مقدمتها الاتجاه الوطني: فالهاجس الوطني واضح لا يغيب في أي عمل من أعماله، حيث يؤكد مراراً ضرورة الحفاظ على الوطن وحمايته من منطلق الواجب الديني، فضلاً عن أنه يعالج المشكلة بأبعادها القريبة المباشرة والبعيدة غير المباشرة.

صورة طبق الأصل

ولأن الهم العربي والإسلامي يتصدر أبرز اهتمامات سموه، فقد كان مجمل أعماله المسرحية يدور في فلك هذا الهم، والقراءة الواعية لمجمل هذه المسرحيات تكشف هذا الهاجس بكل قوة ووضوح، فمسرحية «الواقع صورة طبق الأصل» على سبيل المثال، هي بمثابة عمل تاريخي ذي إسقاط قوي على الحاضر، حيث يقول سموه في مقدمة نص المسرحية: «لقد مرت بالأمة الإسلامية فترات أشد قسوة مما نحن فيه، فلتكن هذه المسرحية واقعاً لعدم اليأس، وحافزاً نحو التوحيد والنضال». والمسرحية (صورة طبق الأصل) تستكمل ثلاثية مسرحية تاريخية تعالج الوضع العربي الراهن وهي: «عودة هولاكو»، و«القضية»، والثلاثية تعالج بجلاء قضية العرب الأولى من منظور التاريخ المعاصر، من خلال نبرة متفائلة ومؤمنة بالمستقبل، أساسها الصحوة والوعي والنور.

صراع الظلام والنور

تحفز مجمل الأعمال المسرحية لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الوعي، وتقدم خلاصة تاريخية بأسلوب فني مبهر، وهي بمثابة وثائق مسرحية عربية ودولية تستحق القراءة والتأمل، ومن يتابع هذه الأعمال ويتابع ترجماتها إلى مختلف لغات العالم، يكتشف حجم الإقبال على قراءتها من مختلف الأوساط والمراكز العلمية والثقافية في كافة دول العالم، فهي تقدم قراءة فكرية وجمالية لمختلف التحولات التي عرفتها المجتمعات العربية والإسلامية، كما هو شأن مسرحية «كتاب الله.. الصراع بين النور والظلام»، وكما ترمز إليه مسرحية «داعش والغبراء» التي تعتبر ملحمة مسرحية جديدة تدين فكرة العنف التي تجعل من علاقة التاريخ بالحاضر جدلية مستمرة، وكما هو حال «علياء وعصام» المسرحية الشعرية التي أعدها سموه، عن قصيدة شعرية تروي حكاية قبيلة عربية بدوية اسمها «رولا» تعودت الترحال في البوادي وراء قطعان ماشيتها طلباً للكلأ والماء، فتروي قصة الحب التي نشأت بين علياء وعصام، وما طرأ عليها بعد ذلك من المطالبة بالأخذ بالثأر، لتنتهي الحكاية بعد ذلك نهاية مأساوية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"