عقد الفوضى و«الفلتان»

00:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

أسموه «الربيع العربي»، وهم يدركون أنه تحوّل شيئاً آخر بعد أيام من اندلاع أحداثه، حلمت الشعوب أن تتفتح فيه زهور الدول وتخضرّ أرضها وتعتدل درجة حرارة حكامها وتورق أشجارها، ولكنها فوجئت به ينحرف وتجرفه تيارات الجشع السياسي، ويجرده من هدفه المرتجى الطامعون في السلطة، ليصبح خريفاً تتساقط فيه أوراق الأمل، أو شتاءً قارساً وقاسياً في برودته على الحالمين، أو صيفاً شديد الحرارة وكثيف الرطوبة بشكل يخنق الأهداف النبيلة ويقلبها إلى خبيثة بيد من امتطوا إرادة الشعوب وتحكموا في تحركاتها، وحرّفوها من تظاهرات سلمية لا تطلب سوى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية إلى تظاهرات مسلحة ارتدت ثياباً دموية، هدفها اختطاف الدول وتركيع الشعوب ونشر الفوضى وخلق الفتنة، وهدم الحدود والعودة إلى الماضي السحيق للسباحة في بحر التخلف والجهالة، لتظل الأمة المتحجرة والغارقة في ظلام دامس والعالم حولها يقفز إلى الفضاء الواسع وينشد النور الساطع. 

 كان يمكن أن يكون الربيع ربيعاً، ويحقق التغيير المنشود ويحيي الآمال في النفوس ويلون الحياة أمام النشء والشباب، لو لم يكن بيننا متأسلمين يتاجرون بدين الله ودنيا الناس، يحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام ويستبيحون الدماء لأجل تحقيق مطمعهم الأكبر، بالسطو على دول المنطقة وتذويبها في دولة واحدة لا مكان فيها لمن يختلف معهم، وعلى الجميع فيها أن يلغي عقله ومشاعره ويتبنى عقيدتهم الباطلة، التي جعلت من الدين مجرد وسيلة لتخدير الناس وسلبهم الإرادة وحق الحياة وحق الحفاظ على الوطن.

 عقد مضى على ما أسموه ربيعاً، والنتيجة ماثلة أمام أعيننا، ومن أطلق الشرارة بلا وعي ولا حسابات عقلية ولا وطنية لايزال عاجزاً عن إطفائها حتى اليوم في أكثر من دولة عربية، وها هي سوريا لا تزال دولة يعيث فيها الطامعون من الخارج ويعيدون الانتشار ويغيرون المواضع من مكان لآخر دون أية نوايا للخروج وترك البلاد لأصحابها، ولا يزال المسلحون يؤدون الدور المطلوب من دون أي خروج عن النص، ولا يزال أبناؤها مشردين في الدنيا بحثاً عن أمن وأمان حرموا منهما طوال عقد الفوضى و«الفلتان»، وفي المقابل لم يتحقق أي شيء مما كان مستهدفاً قبل 10 سنوات. وفي ليبيا لا يختلف الأمر كثيراً؛ حيث الدولة مقسمة والمرتزقة يجثمون على صدور الناس والطامع الأجنبي لا يريد سوى السطو على خيرات البلاد، وعجزت القرارات الأممية والإقليمية عن إطفاء النار المشتعلة كل هذه السنوات. وفي اليمن لا يزال المتمردون جامحين لا تردعهم مؤسسات دولية ولا مناشدات إقليمية. 

 تونس نجت ولَم تنج، من آثار الخيبة العربية، ولا ينكر أحد أنها تعيش عصراً من الحرية والديمقراطية غير المسبوقة، ولكنها في المقابل تعاني غضباً واحتجاجاً وانقساماً وخلافاً بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، ولا تجمع سياسييها كلمة سواء، وهو ما ينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي ويهدد التجربة، وليتهم يتعلمون من الدرس اللبناني والعراقي. 

 أما مصر التي تحتفل غداً بمرور عقد على ٢٥ يناير، فإن للتجربة ظلالاً إيجابية عليها، ورغم سقوط الدولة في أيدي الجماعة الإرهابية عام ٢٠١٢ ليختطفوها عاماً ولكنه كان درساً للجميع حيث انكشف «الإخوان» وانفضحت حقيقتهم أمام الشعب الذي قام بثورة ثانية في ٣٠ يونيو ٢٠١٣ ليزيحهم، ويعيد بناء دولته بمعايير أخرى. ولولا ٢٥ يناير ما تغيرت ملامح مصر وما كانت اليوم تحقق أعلى نسب النمو الاقتصادي وتبني نفسها من جديد على أسس مستقبلية، تبني مدناً جديدة وتطور القديمة دون إغفال القرى أيضاً، وشبكة طرق تفاخر بها عالمياً. وها هي الحكومة المصرية تستعد للانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة لتغير من نمط الإدارة وتجدد أساليب العمل والتعامل مع المواطن، وتتخذ من الرقمنة نهجاً للسير في دروب المستقبل مع العالم الحالم بغدٍ أفضل. 

 لعله ملحوظ أن الدول التي نجت من براثن ما أسموه ربيعاً هي التي انحازت فيها جيوشها الوطنية لإرادات الشعوب، ولولا مواقف الجيوش الوطنية في مصر وتونس والسودان والجزائر لأطلقنا على هذا العقد «عقد الخراب العربي».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"