رمّانة لوركا

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

 

ارتبط شعر لوركا عند الكثير من قرّائه من الشعراء والنقّاد بالزيتون، والغجر الذين يصعدون الجبال، غير أن هذا الشاعر الأندلسي الوسيم هو أيضاً شاعر الرمّان... «..الرمّانة هي الدم../.. دم الأرض المسفوك بإبرة السيل../.. دم الرّيح التي تأتي من الجبال الوعرة..».
ليست الرمّانة هي دم الأرض فقط عند لوركا فهي أيضاً تاريخ ما قبل التاريخ، والرمّانة «لَهيبٌ فوق شجرتها..» وهي شقيقة فينوس من لحم ودم، والرمّانة هي أيضاً ضحكة الحقل، ويا ليت لوركا أضاف صفة لهذه الضحكة وقال.. «ضحكة الحقل الحمراء»، ولكنه اكتفى فقط بِ «ضحكة الحقل» والرمّانة أيضاً عند لوركا هي أنثى الفواكه، وأخيراً يتمنى الشاعر لو أنه مثل الرمّانة «هائماً فوق الرّيف» (ترجمة: خليفة محمد التليسي).
ليس فقط لوركا شاعر ريف، بل وُلِدَ في الريف ومن الريف شعراء بعدد الغابات. شعراء بالمئات مصنوعون من السرو والبلّوط والصفصاف، وإذا هبطت معهم إلى الحقول فما أكثر شعراء الليمون، والبرتقال، والقمح، وعبّاد الشمس. شعراء مثل لوركا يتمنى الواحد منهم لو أنه شجرة أو حتى غابة لا بل كتب الشاعر اليوغسلافي فاسكو بوبا 1922- 1991 ديواناً صغيراً جميلاً سمّاه: «شجرة ليمون في القلب» يُقرأ مرة واحدة، كما لو أنك تجلس تحت شجرة.
ولكن ليس كل الشعراء شعراء رمّان، وزيتون، وليمون، بل هناك من يمكن أن يكونوا شعراء البيت، أو شعراء العائلة، أو شعراء الرصيف، أو شعراء المقهى، أو شعراء الرّيح، أولئك الذين لا سقوف فوق رؤوسهم ولا مظلات للمطر أو الشمس فقط الريح.
لا تنس إذا قرأت شعراء الأنهار أيضاً، شعراء الجبل والسهل والبحر كما لو أن لكل مكان شعراءه، ولكل طبيعة شعراءها فلا يوجد شاعر يمكن أن يحقق صورته الأدبية المكتملة في الفراغ، أو في المكان الذي لا «شخصية» جغرافية أو طبيعية له...
الأمكنة هي التي تنجب الشعراء وتعطيهم في الوقت نفسه امتيازها الجمالي:.. وراء كل شاعر لا توجد امرأة عظيمة فقط، بل وراء كل شاعر إنساني جميل ثمة شجرة أو نهر أو حقل، أو بيت أو رمّانة أنثوية مثل رمّانة لوركا.
يمشي وراء بدر شاكر السيّاب نهر عراقي صغير اسمه: «بويب»، وكان محمد الماغوط يدس يده وأصابعه المحترقة بالتبغ في أحشاء بردى للبحث عن حصاة زرقاء تشبه دموعه، وولدت على ضفاف دجلة والفرات والنيل قصائد لها ملمس الحرير الرملي الذي يصوغه الماء، وحول نهر الأردن ولدت قصائد خضراء مُشْتَقَّة من زرع الغور.
ومثل قصة الرمّانة ولوركا، فالنهر هو دم الأرض إذا أردنا تدوير قصيدة الشاعر وتحويلها من شجر إلى ماء، النهر يأتي من الجبال الوعرة محفوراً بإبرة السيل، والنهر تاريخ قبل التاريخ، والنهر ضحكة الحقل.. ضحكة الحقل الرمادية بلون الفضة.
وراء كل شاعر جميل ثمة قصة حب جميلة، ووراءه جغرافية جميلة أيضاً، وتاريخ أجمل، وفي كل مرّة يلتفت خلفه، يتلفّت قلبه، والشريف الرضي يقول: وتلفّتت عيني فمذ خفيت عنها الطلولُ تلفّتَ القَلْبُ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"