عندما يفقد الاتحاد الأوروبي بوصلته

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

آنا بالاسيو*

فرضت تجربة الانتخابات الرئاسية الأمريكية على دول العالم الحر إعادة النظر في التجربة الديمقراطية الليبرالية. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي مطالب بأن يأتي التحول الديمقراطي المضطرب بشيء آخر، وهو التفكير بصدق في الحالة التي تعيشها الليبرالية في عالم اليوم.

 وقد اعتمدت حيوية التقاليد الليبرالية تاريخياً على عالميتها بمعنى الإيمان بأن القيم الليبرالية تنطبق على البشرية جمعاء. لقد عززت هذه القناعة نوعاً من الحماسة، التي دفعت الجهود لبناء وتعميق ودعم النظام الليبرالي العالمي.

 وقد وفر هذا الإيمان بالقيم الليبرالية العالمية مركز ثقل أمكن من خلاله قيادة دول الغرب خلال الحرب الباردة. لكن الليبرالية الآن فقدت محركها وبوصلتها، لتطل الصين الحريصة على ملء الفراغ، بنموذجها العالمي الذي ينتظر أن تكون هي نواته.

 وقد تم تحريف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيام الحرب الباردة بسبب اعتراض الروس ودول أخرى على قضية الحقوق الفردية حيث امتنعت عن التصويت عليه. لكن بات من الواضح أن تضمين الحقوق الفردية في الإعلان كان القرار الصحيح. لم يكن الإعلان يتعلق بالتدوين والمدونين، ولم يكن من المفترض أن يكون ملزماً. لكنه على علاته ينعش الأمل في عالم أفضل.

 وقد استمر التوافق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد سقوط جدار برلين، متجاوزاً جولة جديدة من الدعوات للنسبية، مثل مراعاة «القيم الآسيوية» في التسعينات. وكانت الولايات المتحدة المهيمنة حينها، والنموذج الذي لا جدال فيه عن الليبرالية في السنوات التي أعقبت انهيار الكتلة السوفييتية - مركزاً لاستمرارية وتعزيز هذا الاعتقاد.

 واليوم انحسرت هيمنة الولايات المتحدة، حيث تتعرض مؤسساتها الديمقراطية للهجوم من قبل رئيس سابق وملايين من أنصاره. نتيجة لذلك، فقدت الليبرالية محركها وبوصلتها.

ويبدو من خلال اتفاقية الاستثمار الشاملة المبرمة مؤخراً بين الاتحاد الأوروبي والصين، أن أوروبا سترضخ أيضاً للنموذج الصيني. وعلى الرغم من أن مفاوضات الصفقة بين الجانبين استمرت لمدة سبع سنوات، كان كلا الجانبين حريصاً على إبرامها بحلول نهاية عام 2020، قبل تنصيب إدارة بايدن، الملتزمة بإنشاء جبهة موحدة من الديمقراطيات لمواجهة الصين.

 وعلى الجانب الأوروبي، أرادت ألمانيا أن تعد الصفقة ضمن إنجازات رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي. لذلك، حتى عندما كانت تروّج لشراكتها العالمية الجديدة الوشيكة مع الولايات المتحدة، سارعت لإتمام الصفقة مع الصين رغم اعتراضات فريق بايدن. أليست هناك طرق أكثر ذكاءً كي تظهر أوروبا رغبتها المعلنة في تحقيق «الاستقلال الاستراتيجي».

 ومع ذلك، فإن هذا ليس الجزء الأكثر إحباطاً في القصة. وبدلاً من اتخاذ موقف بشأن حقوق الإنسان، كما فعل الأوروبيون في عام 1948، غض الاتحاد الأوروبي الطرف عن القضية الليبرالية كليا. صحيح أن الاتفاقية تقول إن كلا الجانبين سيعملان على تنفيذ اتفاقيات العمل الدولية، لكن تغافل الصين عن القوانين الدولية الخاصة بالعمل القسري يجعل هذه الاتفاقية أقل قيمة من الحبر الذي كتبت به.

 وما الذي جعل أوروبا تتنكر لجوهر مبادئها السياسية؟ الحقيقة أن الأوروبيين في ظل ما تركه الوباء من آثار على الاقتصادات في منطقة اليورو، يسعون بكل قوة لكي تمنح الشركات الأوروبية فرصة الدخول إلى السوق الصينية من باب واسع، على الرغم من أن التجربة الأسترالية المريرة مع الصين تقول إن البنود المتعلقة بالاستثمار في الصفقة قد لا تعني الكثير. ومع ذلك، حتى لو جلبت الصفقة فوائد اقتصادية هائلة، فإنها لن تعوض تكلفتها الأخلاقية.

 وهناك قول مأثور للمستشار الألماني السابق هيلموت كول جاء فيه «عندما يفقد المرء بوصلته التي تحدد له المسار الواضح نحو الهدف،فالوقوف في مكانه أفضل من التحرك على غير هدى».

 وهل من شك في أن القيم الليبرالية هي بوصلتنا. بدونها، لا يمكننا التنقل في التضاريس المجهولة لنظام دولي في حالة تغير مستمر. ولا يمكننا تجاهل قراءاته لمجرد أن القائد القوي يأمرنا بتغيير المسار. وإذ استسلم الاتحاد الأوروبي للشعور بالرضا عن الذات،ما يعكس عدم تقدير قيم الديمقراطية، والميل إلى الاسترخاء الناشئ عن الافتقار إلى الثقة، فسوف ينتهي الأمر به لأن يفقد جوهره ويشتت قواه ويفقد هيبته ونفوذه.

* وزيرة الشؤون الخارجية الإسبانية سابقاً (بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

وزيرة الشؤون الخارجية الإسبانية سابقاً

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"