تونس والسكة الخطأ

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

التونسيون أضاعوا فرصة ثمينة لنقل دولتهم إلى مستوى الدول العصرية لأن قطار “الثورة” سار على السكة الخطأ
بالرغم من أن ثورتها كانت سلمية، وبالرغم من الرصيد المعنوي الذي غنمته بلاد الياسمين خلال الأسابيع الأولى للثورة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لتونس حتى تتمكن من صياغة أنموذجها الثوري النقي الذي ينقلها إلى دولة متقدمة، لا على المستوى السياسي فقط، بل على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية.
 فبعد عشر سنوات من أحداث 2011، يمكن قراءة التجربة التونسية قراءة عقلانية، وتقييمها وفق الآفاق والرهانات التي تم رفعها في ذلك الحراك الاجتماعي الذي أدى إلى سقوط نظام ابن علي. ومع يقيننا أن أي تحليل ومهما كانت طبيعته، فهو يحمل في طياته تحديات وانكسارات، وربما ارتدادات إلى الوراء، فإن المتوفر على الساحة التونسية من نخب مثقفة ومن نسب تدريس عالية ومن ثروات بشرية مدربة وذات مهارات عالية، ومن تموقع استراتيجي في قلب المتوسط، ومن مؤسسات لها تاريخ في إدارة الأزمات، يجعلنا نقول إن التونسيين قد أضاعوا فرصة ثمينة لنقل دولتهم، ومجتمعهم إلى مستوى الدول العصرية و المتقدمة، لأن قطار الثورة ومنذ الأيام الأولى، قد سار على السكة الخطأ
 الخطوة الأولى في مسار الثورة الخاطئ هو السماح للإسلام السياسي بالتمدد والاستحواذ على الشوارع، وإقامة الخيم الدعوية والسيطرة على المساجد أمام أعين الجميع، ما سمح بتشكيل قوة اجتماعية دينية سيطرت على المجتمع، واستطاعت توجيهه نحو الأهداف والغايات التي تخدم جماعات الإسلام السياسي، ومخططاتها وتحالفاتها الإقليمية، والدينية. ولأن في تونس نخباً حداثية، فإنها سعت إلى التصدي لذلك المشروع وانحصر الصراع في مستوى هوية المجتمع التونسي، حيث لم يتم الحسم إلى حد الآن، في طبيعة هذا المجتمع وآفاقه ورهاناته، وقد كان هذا الصراع بين النخب الحداثية والنخب الرجعية، يخدم الرجعيين أكثر من الحداثيين، لأنه استطاع تعطيل تقدم المجتمع وعدم الاهتمام بالقضايا الحقيقية التي نهض الشعب لأجلها في عام 2011.
 الخطوة الثانية في هذا المسار الخاطئ تمثلت في عدم الحسم مع الفساد، وعدم القدرة على إدارة المعركة معه، فعوض فتح ملف الفساد بطريقة جدية وجذرية، من أجل تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين، ومن أجل منع إعادة إنتاجه، أو على الأقل التقليص منه للمستويات الدنيا، سارت النخبة السياسية في الاتجاه الخطأ، حيث عمد من حكموا تونس بعد الثورة، وعلى رأسهم حركة النهضة، إلى اعتماد سياسة الجزرة والعصا مع الفاسدين، ومن هنا فتحوا باباً لابتزاز أرباب رؤوس الأموال، وجعلوهم تحت الضغط «المزمن» فلا هم حسموا قضاياهم على المستوى القضائي، ولا الدولة استفادت من قانون المصالحة مع الفاسدين منهم، ولا المجتمع ربح من استثماراتهم التي تعطلت حيث تراجعت نسب الاستثمار الداخلي في تونس خلال السنوات الأخيرة إلى المستويات الدنيا. 
 ويكفي أن نشير إلى أن نسبة الدخل الفردي تراجعت من 2011 إلى 2019 بنحو ثلاثين في المئة، و فقدت العُملة التونسية نحو 40 في المائة من قيمتها أمام الدولار خلال السنوات الماضية. مع تسجيل تراجع حاد في إجمالي تكوين رأس المال الثابت في البلاد والذي مر من نسبة 24 في المئة من الناتج الداخلي الخام، قبل الثورة، إلى 18 في المئة سنة 2019، وأقلّ بكثير في 2020.
 الخطوة الثالثة في مسار الحالة التونسية الخاطئ، نجده في تهميش القطاعات الحيوية، خاصة التعليم والصحة. حيث لم تركز الأحزاب والنخب اهتماماتها على إحداث ثورة حقيقية في مجال التعليم تنهي حالة الانحدار وتقضي على ظاهرة الفشل المدرسية، حيث غادر المدرسة التونسية خلال السنوات العشر الماضية نحو مليون طفل، بمستويات دراسية متدنية جداً، ولم يتم الاهتمام بإحداث ثورة في مجال التكوين و التدريب المهني وفي التعليم الجامعي، ما فاقم من أزمة حاملي الشهادات التكوينية أو شهادات التعليم العالي.
 إن هذه المؤشرات هي التي تفسر إلى حد بعيد عمق الأزمة التونسية الحالية. فما الصراع السياسي الحالي الذي بلغ أقسى درجاته في صراع أقطاب مؤسسات الدولة وهي البرلمان والحكومة والرئاسة، إلا دليل واضح على أن تونس تسير على السكة 
الخاطئة، ولعل من أولى الحلول هي مراجعة المنظومة السياسية القائمة بعد 2011، فهي مكمن الداء، ومربط الفرس، في كل الأزمات الناتجة عنها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"