عادي

أحلام قروية مغدورة

23:33 مساء
قراءة 6 دقائق
1

القاهرة: «الخليج»

كان الشعراء العرب وغير العرب يتغنون بالطبيعة، فمنهم من تغنى بالحقول، ومنهم من كتب عن الصحراء والجبال، كان «الوصف» باباً طرقه معظم الشعراء، ولم تخل منه قصيدة من قصائدهم، فالشاعر الجاهلي أدرك الجمال في بيئته، وقام بتصويره، وكان يعتمد على قوة الخيال، حين يصف الناقة والخيل والصخر والجبال والسهول. وتطور فن الوصف حتى تحول إلى فن مستقل، ثم تغيرت النظرة إلى الطبيعة في العصر الحديث، إثر تعرف الشعراء العرب إلى الآداب الغربية، فاعتبروا الطبيعة ملاذاً يجدون فيه الراحة، فكانوا يهربون إليها، ويبثونها أحزانهم.

كان هذا واضحاً لدى معظم الشعراء الرومانسيين من «خليل مطران» إلى «عبد الرحمن شكري» و«على محمود طه» و«إبراهيم ناجي» لم تكن الطبيعة ذاتها مجرد مادة، بل أضحت، في وجدان الشاعر متكئاً للتأمل، وبذلك قادته إلى طبيعة أخرى، هي طبيعته الذاتية، الخاصة به وحده.

وجاءت الثورة الصناعية في أوروبا، وكانت المدينة نتاج هذه الثورة، كانت لغة الإنسان في حربه ضد الطبيعة، التي تهدد حياته، ثم أصبحت فيما بعد مركز ثقل إنسانياً، وبدأت مفاتنها وشرورها تأخذ شكل الغواية، التي يصعب مقاومتها، ولم تكن هناك مواقف عدائية منها، حتى تطورت وتعقدت العلاقات بها، في القرن العشرين، على نحو حاد.

نموذج للخواء

كان من الصعب على الريفيين أن يتكيفوا مع تلك المدينة، وبلغ الموقف ذروته، لدى الشاعر الإنجليزي «ت. إس. إليوت» في قصيدتيه «الأرض الخراب» و«الرجال الجوف» وكانت باريس، ولندن، ونيويورك من أكثر المدن حضوراً في تجربة الشاعر المعاصر، في الغرب والشرق، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المدن تمثل نموذجاً للخواء الروحي، حيث يعيش المرء حالة من الغربة، ويموت هناك وحيداً.

ولم تكن المدينة العربية بمعزل عما يجري، مع بعض الاختلافات، فالناقد عبد الله رضوان في كتابه «المدينة في الشعر العربي الحديث» يرى أنه إذا كانت المدينة «كمعطى معاصر» تعد أوروبية المنشأ، على اعتبار قيامها على قاعدة مادية متمثلة في الثورة الصناعية، فإن المدينة التي عرفها عالمنا العربي، إنما جاءت تطويراً لموقف سياسي (وجغرافي) في الغالب، فالمدينة العربية ليست نتاج تطور في أساليب وقوى وعلاقات الإنتاج.

من هنا لن نجد فيها ما نجده في المدينة الأوروبية، فالشعراء في أوروبا احتجوا على مدينتهم، لما أزهقته من أرواح إنسانية على المستويين المادي والمعنوي، إذ جاءت الحركة الرومانسية احتجاجاً على مجمل الواقع المادي، الذي ينمو بجنون على حساب المعطى الإنساني ذاته «الجانب الروحي». ولم يأت موقف الشاعر العربي تجاه مدينته، نتاج تطور الواقع المادي: علاقات، أساليب، قوى إنتاج، بل تعلق هذا الموقف ببنية المجتمع العربي المشوهة، التي تنقل مادياً أرقى منجزات العلم والتكنولوجيا في إطار الخدمات، وما يستتبع ذلك من كسر وهدم في العلاقات الإنسانية التقليدية، دون وجود قاعدة مادية لهذا التطور.

من هنا جاءت هذه الاختناقات الحادة في حياة ابن المدينة العربية، والإحساس بالوحدة، والضياع، والغربة، وغير ذلك من مفردات القلق الإنساني المعاصر، فبدأت المواجهة، حينما رحل الشاعر العربي إلى المدينة، بحثاً عن وجوده الاجتماعي والسياسي، وهناك اكتشف المؤامرة التي تجلت في أشكال مختلفة.

صراع مع البيئة

هناك آراء أخرى ترى أن الموضوع ما هو إلا صراع بين الريف والمدينة، وأن هذا الصراع قديم، إلا أن ظهوره في العصر الحديث دليل على ارتباط الشاعر بالمكان، لأننا لم نجد كل الشعراء قد تبرموا من المدينة، بل إن هناك موقفين متناقضين، ففي جانب تقف المدينة المبرأة من العيوب، وفي جانب آخر تقف المدينة القاسية، المشوهة.

هذان الموقفان نجمت عنهما آراء، تحاول أن تتهم الشاعر، فما هو إلا مفتعل لهذه المعاناة، أو مقلد لشعراء الغرب، وفي هذا الاتجاه يقف الناقد إحسان عباس: والثابت أن«المدينة» في المجتمع العربي لم تكن نتيجة ثورة صناعية، بقدر ما كانت استمراراً للتوسع في مدن عربية قديمة.

كثير من الباحثين يميلون إلى الاعتقاد بأن المدينة في العالم العربي، ليست سوى«قرية كبيرة» وأن الشاعر حين يحس بتضايقه من المدينة، فيتحدث عن الغربة والقلق والضياع، إنما يحاكي - مجرد محاكاة - شعراء الغرب، حين يضيقون ذرعاً بتعقيدات الحضارة الحديثة، وبالمدينة الكبيرة ممثلة لها».

ويثبت الناقد عز الدين إسماعيل هذا التأثر بالغرب، لكنه لا يجعله المصدر الأساسي في تجربة المدينة في الشعر العربي الحديث، بل يتعداه إلى مصدر آخر إذ يقول «أما فيما يختص بمصدر هذا الاهتمام، فإن الدافع الأول إليه دافع خارجي، جاء نتيجة لتأثر الشعراء المعاصرين، بنماذج من الشعر الغربي، وبقصيدة«الأرض الخراب» بما يشيع فيها من نقمة على الحضارة الحديثة، وما أحدثته من تمزق للعلاقات الإنسانية».

تحولت المدينة من مجرد مكان جغرافي، إلى طاقة رمزية، تفتح للشاعر آفاقاً واسعة، بالرغم من الانتقادات التي وجهت للشاعر العربي، بأنه مقلد للشاعر الغربي، فبعد النصف الثاني من القرن العشرين انشغل الشعراء العرب بالمدينة، إذ لم يخل ديوان من دواوينهم من قصيدة واضحة عن المدينة.

ودائماً كانت هذه القصائد محل التباس وشكوى، ودائماً كانت النصوص تنطلق من الشعراء الريفيين، الذين لم يغادروا المدن التي يشكون منها، لهذا بقيت هذه العلاقة بين الشاعر والمدينة علاقة إشكالية، وربما كان بدر شاكر السياب أحد أهم الشعراء الذين كان لديهم موقف واضح تجاه المدينة.

تحول كبير

شكلت قصائد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي تحولاً كبيراً في ذهنية الرجل البسيط، الذي تحول إلى إنسان، يواجه المدينة بزخمها وتنوع الحياة فيها، ويظهر ذلك في ديوان «مدينة بلا قلب» الذي يعتبر نقطة مهمة في تحول القصيدة العربية، نحو شعرية المدينة، بكل ما تحمل من خصائص.

وإلى جانب قسوة المدينة هناك «الحنين إلى الريف» الذي يتردد في عدد غير قليل من قصائد «حجازي» والحنين ليس إلا مظهراً من مظاهر القلق، والضيق بالمدينة، وليس إلا تعبيراً عما يلقاه الشاعر من عقبات، تقف في وجه رغبة الشاعر في الحياة، ففي المدينة حيث القلق والوحدة وتمزق العلاقات الإنسانية، يحن «ابن الريف» إلى الحياة الوادعة غير المعقدة.

ويعبر «إليوت» في شعره كثيراً عن الحنين إلى العالم الزراعي، بل إلى العصور الوسطى، حيث لا صناعة ولا ضجيج، ولا «رجال جوف» بل انسجام وهدوء وطبيعة إنسانية، متصلة بالظواهر الكونية، فالحنين إلى الريف عند «إليوت» ناتج عن الضيق بالمدينة، لكن حجازي لا يتبنى وجهة النظر تلك، إنه يذكر الريف لأنه الدنيا الخالية، من أكثر ما لقيه من هموم وأحزان، ففي الوقت الذي يتعذر عليه إيجاد علاقة بينه وبين المدينة، فإنه يجد هذه العلاقة بينه وبين الريف.

يقول الناقد الراحل رجاء النقاش: «إن ديوان حجازي«مدينة بلا قلب» يعد وثيقة نادرة، وثيقة من تلك الوثائق القليلة التي لا تتكرر بكثرة، وباستثناء ديوان«الناس في بلادي» لصلاح عبد الصبور، لم يظهر في مصر عمل شعري، على جانب كبير من الخطر والأهمية، في تصوير جيلنا وعصرنا، مثل«مدينة بلا قلب»ولا شك أن هذه الحقيقة تضمن لهذا الديوان بقاء طويلاً، وتقدمه إلى التاريخ عملا من تلك الأعمال الكبرى، التي لا تمثل شيئاً كبيراً في الأدب فحسب، وإنما في الحياة أيضاً».

لا يخفي حجازي صدمته الكبرى بالمدينة، حيث معترك الحياة والعلاقات القائمة على الصراع، وتعتبر المدينة عنصراً محفزاً لمخيلة الشعراء، فلكل شاعر مدينته التي يركن إليها، ويذكر شعراء كثر المدينة التي عاشوا فيها أو مروا بها في أشعارهم، وثمة مدن مفترضة تأتي من واقع الخيال.

شوق إلى الجديد

لكن رحلة الشاعر «أمل دنقل» تبدأ عندما تطأ قدمه أرض المدينة، ويقف على أبوابها، بأحلامه القروية البسيطة، وتشوقه للعالم الجديد، الذي يحقق فيه ذاته الطامحة للمجد والشهرة والأضواء.

هذا ما يؤكده الدكتور عبد الناصر هلال، مشيراً إلى أن «دنقل» تنقل بين (مدن) القاهرة والسويس والإسكندرية، واستقر أخيراً في القاهرة، حيث كشفت نصوصه بوضوح عن أثر المكان في رؤيته للعالم، من خلال جدلية ذاته مع المدينة، وفي الوقت نفسه استطاعت هذه الجدلية أن تكشف لنا موقفه من المدينة، ومن القرية التي لم تصبح بديلاً للمدينة، لكنها أداة من أدوات المواجهة، التي جعلته يصنع قانونا خاصا للتعامل مع معطياتها، فأصبح كائنا ليليا، وتمثل قصيدته «مقتل القمر» نموذجا للحياة الإنسانية في القرية.

غياب الألفة

كثير من الشعراء المعاصرين، هاجروا إلى المدن، وتركوا وراءهم قرى، ولدوا بها، فالصدام بينهم وبين المدينة لا يعني رفضاً للحضارة، وإنما هو تعبير عن عدم الألفة بينهم وبين البيئة الجديدة، لأسباب مختلفة، لكن التعبير عن عدم الألفة يكون في البداية، إذ من المفروض أن يكون الشاعر قد ألف هذه الحياة، مع طول الإقامة بها، وبالتالي أصبحت جزءاً من حياته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"