عادي

الهجــرة إلــى الطبيعــة

23:28 مساء
قراءة 6 دقائق
1

يوسف أبولوز

(1)

 لعلّه محمود درويش من تساءل ذات يوم عن وجود شعراء الحب، وقال في قصيدة له: «وداعاً، وداعاً لشعر الأمل» هذا المقطع الشعري الذي يمكن أن ينسحب في وداعيته هذه على شعر الزرع، شعر الأشجار والغابات، شعر الحقول، شعر السهوب، شعر الثمر والوردة والغصن والبرعم والأوراق الخضراء المبلّلة بالندى، والجذور الغائصة في قلب الترابْ».

 هل انتهى الشعر العربي الذي يحمل روح الطبيعة الزراعية بشكل خاص، وعندما نربط هذا الشعر بالطبيعة، فإننا نتساءل أيضاً عن مفردات تالية ذات طبيعة زراعية: الجدول، النهر، الغدير، الوادي، الضفاف، الجبل، السفوح، وغيرها من مرئيات أرضية هي لحم ودم شعر الزرع.

وبالمقابل، هل يمكن القول إن شعراء الزرع هم دائماً خارج فضاء المدينة الصناعي، المادي، الاستثماري، العقاري، الاستهلاكي، الرسمي، الوظيفي، النفعي، وغير ذلك من مفردات لا يمكن أن تنسجم مع روح الريف، وروح طبيعة الزرع.

إن العلاقة التناقضية، الندية، التصادمية بين الشاعر والمدينة هي علاقة قديمة على المستوى النظري وعلى مستوى البحث والقراءة النفسية الروحية الثقافية الجدلية لهذه العلاقة، وقد سبق أن كتبت عشرات البحوث والدراسات في هذه العلاقة التي تضع المدينة كياناً مادياً «معادياً» للشاعر أو «شرساً» بالنسبة إليه، فالمدينة في مجمل تلك القراءات التي شهدت الذروة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين هي مقتل الشاعر، والمدينة تنزع عن الشاعر طفوليته وبراءته وفطرته، والشعراء يضيعون في المدن مثل «ضياع» لوركا في نيويورك، و«ضياع» أدونيس في قصيدته «قبر من أجل نيويورك»، كما لم تكن القاهرة حلم أمل دنقل أو محمد عفيفي مطر ذات يوم، وكان خليل حاوي شاعر نهر الرماد على علاقة متوترة مع بيروت، وعندما جاء بدر شاكر السيّاب من الضفاف الصغيرة لنهر «بويب» في قرية جيكور العراقية إلى بغداد عصفت به غربة الشاعر أو غربة القروي الذي يدخل المدينة كما لو أنه يدخل إلى غابة متوحشة أو غامضة.

لم تكن المدينة ذات يوم في الثقافة الشعرية العربية والأوروبية الغربية مكاناً يستوعب أشواق الشاعر وطفوليته، وبخاصة المدينة «الغربية».. مدينة المصانع، و الشركات الكبرى، ومدينة المافيا، والفساد السياسي والاجتماعي، وأيضاً مدينة الحروب الأهلية، والانقلابات العسكرية، والصفقات التجارية ذات الطابع الربوي أو العبودي. مدينة الرقّ والطبقات وخطوط الفقر والاستغلال والاستبداد والاستعباد. هذه المدن إذا كثفّناها في مدينة واحدة فهي لم تكن بالمطلق مدينة الشاعر، وهكذا، كان الشاعر دائماً يهرب من هذه المدن، ويتركها بأقفالها وصخبها وازدحاماتها ودخانها لأهلها المدنيين أو المتمدنين أو الأحياء على شكل موتى في ما يُسمى علب السردين، أي شغف ناطحات السحاب، والعمران الزجاجي الذي ألغى الحوش، والسور، والأبواب والنوافذ، والشرفات وجعل من ساكن المدينة «حيواناً» متمدّناً يلجأ كنوع من التعويض الكاذب إلى شراء نباتات شمعية بلاستيكية ويضعها في شرفة شقّته المسدلة عليها الستائر طيلة الوقت.

لكن قبل تتبع هروب الشاعر من المدينة، وتوجّهه إلى الريف أو إلى الحقول والجبال حيث الشجر والحجر والنهر.. قبل ذلك، علينا أن ننتبه إلى مدينة أخرى أخف وطأة في مادّيتها المرعبة من مدينة الغرب الصناعي البنكنوتي الشركاتي الاستعماري الاستشراقي، إنها مدينة الشرق، مدينة آسيا الفقيرة، ومدينة الصين المغلقة على حكمة كونفوشيوس، ومدينة الروح اليابانية المغلقة أيضاً على بوذا وآلاف المعتقدات والأساطير والانثروبولوجيات والأديان، والروحانيات التي تجعل من المدينة الشرقية الآسيوية تحديداً وإن جاز التخصيص مدينة المعبد أكثر مما هي مدينة المصنع والشركة والبنك والعملة الصعبة والشبق الاستعماري والاستعبادي والاستثماري في حدوده القصوى اللاغية تماماً لآدمية البشر وتحويلهم إلى روبوت.

إذا اتفقنا أن ثمة مدينتين في هذا العالم لا بد أن يجرّب الشاعر العيش فيهما ثم يختار واحدة منهما إذا كان لا بد من الاختيار، فإن هناك مدينة غربية صناعية، وهناك مدينة شرقية روحية، إذا تبع الشاعر قلبه وروحه فإنه سيختار المدينة الواقعة في شرق الأرض، شرق الثقافات، وشرق الروح والإنسان.

(2)

ولكن حتى لو عاش الشاعر في المدينة الشرقية أو في مدينة الشرق الرّوحي، البوذي، الكونفوشي، المعتقدي، الحكائي، السماوي، فإنه لا يريد أن يكون أي شيء آخر سوى أن يكون شاعراً.

الشاعر في المدينة الشرقية، وليكن تعبير «المدينة الشرقية» مصطلحاً أو مجازاً عما هو روحي أرضي طفولي فطري يريد أن يكون شاعراً فقط، الشاعر لا يريد أن يكون في هذه المدينة الشرقية بوذا، ولا كونفوشيوس، ولا فيلسوف زن، ولا الحكيم آيسوب، أو أحد معلمي اليوجا، ورياضة الروح والصيام والجسد بثياب برتقالية، وبلا امرأة، وبلا مائدة لحمية حياً بشحوب على نباتية صارمة.. الشاعر، بفطرته الحرّة، لا يريد أن يكون كل ذلك، هو دائماً خارج المعبد بقميص صيفي وبنطال خفيف وحذاء من جلد النمر، بعيداً عن المعتقد والصوم والرداء البرتقالي، أي بكلمة ثانية، بعيداً عن المدينة الشرقية.

أما في المدينة الغربية، وليكن تعبير «المدينة الغربية» كناية عن الروبوت والبنك والقنبلة النووية وحاملة الطائرات والشركات المصنّعة للجرثوم والمصل والفيروس واللقاح، فالشاعر لا يريد أن يكون قيصراً أو دوقاً أو جنرالاً مثقلاً بالنياشين، ولا يريد الشاعر في المدينة الغربية أن يكون إمبراطور مال، ولا رئيس عصابة، ولا سيد مؤسسة إعلان وعقار؛ بل يريد أن يكون كما هو «شاعر» طيب القلب خارج هذه المدينة ورموزها ورمزياتها. شاعر مثل أخيه الشاعر الآخر الهارب من شرق الروح إلى الهواء الطلق.

عندما تصبح المدينة، أياً كانت شرقية أم غربية، سجناً للشاعر فإنه يذهب إلى حيث الزرع، والشجرة، والظلال، والندى، والبئر، والضفاف، والوردة،... يذهب إلى الزيتون والرمّان كما كان يفعل لوركا في مداه الزراعي الأندلسي الأخضر مشبعاً ذاته الكاتبة بهذا الجمال الذي لا ينضب.

(3)

في قصيدة بعنوان «أغنية شرقية» يكتب لوركا ما يشبه الغابة، والقصيدة من ترجمة نادية ظافر شعبان، أردت أن أنقل جزءاً منها للقارئ ليقف بنفسه على شعر الغابة، أو شعر الشجرة، أو شعر الزرع الذي لا يكتب اليوم في مثل هذه الحرارة اللوركاوية اللذيذة وفيها: رمان معطّر، وزيتون، وتفاح، وبرتقال وليمون.

الرمانة مثلُ نهدٍ قديمٍ/ من الرق/ لكي تضيء الحقل/ هي قفيرُ نحلٍ صغير/بعسلٍ دامٍ/ صاغها النحل/ من ثغورِ النساء/ ولهذا فهي حين تنفلقُ/ تضحكُ بأرجوانِ آلاف الشفاه.

الرمانة قلب/ يخفقُ فوق الأشياء المزروعة/ قلبٌ مترفعٌ/ لا تنقره الطيور/ قلبٌ/ من خارجها قاسٍ كقلب الإنسان/ ولكنها تمنحُ لمن يشقها/ عطر مايو ودمه.

الرمانةُ/ هي كنزِ عراف المرعى العجوز/ ذاك الذي تحدثَ إلى الوردة الصغيرة/ في الغابِ المنعزل/ صاحبُ اللحية البيضاء/ والثوبُ الأحمر

الكنز الذي ما تزال تحتفظُ به/ الأوراق القديمة للشجرة/ أقواسُ الأحجار الثمينة/ في جوف الذهبِ الغامض/ السنبلةُ هي الخبز/ والزيتونُ خلاصُ/ القوة والعمل/ والتفاحُ هو فاكهة الشهوة/ وغموضُ الخطيئة/ وجرعة الأحقاب التي تحفظ العلاقة/ مع الشيطان/ والبرتقال هو حزن

الزهد المدنس/ وهكذا يصبحُ نارًا وذهبًا/ ما كان من قبلُ صفاءً وبياضًا/ والبلوطة هي شعر العصور الماضية الهادئ/ والسفرجل من الذهب الضعيف/ هو نظافةُ الصحة/ ولكن الرمانة هي الدم/ دمُ الأرضِ المسفوكِ بإبرةِ السيل/ دمُ الريحِ التي تأتي مخدشة/ من الجبال الوعرة

دمُ البحرِ الهادئ/ دمُ البحيرةِ النائمة.

الرمانة هي تاريخ ما قبل التاريخ/ الدمِ الذي نحمله في/ فكرة الدم المغلق في كريات قاسية/ وحامضةٌ لها شكلٌ غامض/ يشبهُ القلبَ والجمجمة

أيتها الرمانة المتفتحة/ أنت لهيبُ فوق الشجرة/ شقيقة فينوس من لحمٍ ودم/ ضحكةُ الحقلِ الذي تتجاذبه الرياض/ تحيط بك الفراشات/ وهي تظنك شمسًا ثابتةً/ وتهربُ منكِ الديدان/ مخافة الاحتراق/ ولأنك نورُ الحياة/ وأنثى الفواكه/ ونجمة الغابِ الساطعة/ والجدول العاشق/فقد تمنيتُ أن أكونَ مثلك/أيتها الفاكهة/ شغفا هائمًا فوق مجالي الريف.

لقد اخترت أن يتجوّل القارئ في هذه الحديقة الأندلسية وحده من دون شروحات تشوّش على القصيدة في حدّ ذاتها، هذه حديقة أندلسية، زرعية، شرقية، وليست «مدينة بلا قلب» كتلك التي تجوّل فيها ذات يوم أحمد عبدالمعطي حجازي:

«حملتُ كأسَ عمريَ الصغيرَ فارغاً

لمن يصب فيه قطرتي سرور

طفتُ بدور

طردتُ مرّةً، وقيل لي تفضّل مرّتينْ

مرَّ الزمانُ كل ليلة سنة

لم اغف فيها غير ساعة

وغفوة الغريب لا تطول».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"