الولايات المتحدة.. الثابت والمتغير

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناجي صادق شراب

تبقى منطقة الشرق الأوسط، بمفهومها الشامل الذي يصل إلى باكستان، إحدى أهم المناطق الاستراتيجية، ليس للولايات المتحدة فقط، بل لكل القوى الدولية الساعية للتربع على قمة النظام الدولي. فالمنطقة تمتلك ما يكفي من عناصر القوة الاستراتيجية الشاملة، وتنفرد بموقع مهم كان، وما زال مسرحاً للتنافس بين كل القوى الكبرى. ولا يمكن تجاهل كيف أن المنطقة، وحتى من قبل مرحلة الباردة بين الولايات والاتحاد السوفييتي، كانت منطقة صراع ارتبطت بكل استراتيجيات الولايات المتحدة، وشكّلت مصلحة مشتركة لكل الإدارات الأمريكية. 
 ولعل من أهم أسباب الاهتمام الأمريكي بالمنطقة هو وجود إسرائيل في قلبها. والالتزام الأمريكي بأمن وبقاء إسرائيل يفرض أن تبقى المنطقة أولوية في الاستراتيجية الأمريكية العليا، إضافة إلى العلاقات التحالفية التقليدية مع عدد من الدول ذات الثقل الاستراتيجي والاقتصادي في الخليج، والتغلغل الروسي في المنطقة وقربها من حدودها الجنوبية، واليوم تشكل المنطقة إحدى المناطق التي تسعى الصين لتثبيت وجودها فيها.
 هذه الأسباب تؤكد لنا أن منطقة الشرق الأوسط تمثل المتغير الثابت في السياسة الأمريكية، ومع ذلك، برزت في العقدين الأخيرين، ومع إدارة الرئيسين أوباما وترامب، الرغبة في الانسحاب وتقليص وجودها العسكري، والخروج من منطقة الحروب اللانهائية، بعدما تحملت أكثر من تريليون دولار في حروب خاسرة في أفغانستان، والعراق.
 وفي مقالة لمارتن إنديك في ال«جورنال ستريت»، أكد أنه لم يتبق إلا القليل من المصالح الحيوية، وأن هذه المصالح قد لا تستحق الذهاب للحرب في المنطقة، وينبغي على واشنطن أن تفعل أقل في الشرق الأوسط، وتخفف من قوتها، وأن الوقت الذي كان هناك أكثر من 180 ألف جندي أمريكي، أو عندما كانت أسعار النفط تتحكم في الاقتصاد الأمريكي، قد انتهى، وأنه حان الوقت لأن تقوم الولايات المتحدة بإعادة ترتيب أوراقها وألوياتها في المنطقة.
 هذه الأفكار ما زالت تسود في مراكز الأبحاث الأمريكية، ولدى نخب كثيرة، لكنها لم تثبت مصداقيتها بالكامل. فتقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة يتطلب توازناً شائكاً وصعباً، فتقليل الوجود العسكري يخلق حالة جديدة من عدم الأمن، بينما الردع والنفوذ يحتاجان إلى الإيفاء بمصالح الولايات المتحدة الثابتة في المنطقة، بل إن هذه المصالح تفرض الوجود والبقاء أكثر، مع صعود ونفوذ القوى الدولية والإقليمية. فإدارة الرئيس ترامب السابقة لم تبدِ توازناً واتساقاً في نظرتها للمنطقة. ففي الوقت الذي كانت تعمل فيه على تقليص وجودها العسكري في العراق وسوريا، والعمل على سحب كل القوات الأمريكية من أفغانستان، كانت تمارس سياسات صارمة مع إيران، وفرض العقوبات، بل ووصول العلاقات بينهما إلى درجة الصدام المباشرة، كما في حادثة اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، والتعرض للسفن الأمريكية في مياه الخليج. إذ رأينا مزيجاً من النشاط العسكري وزيادة القوات. وهذه السياسات المتأرجحة منحت القوى الأخرى الفرصة لمزيد من التغلغل، وجعل المنطقة دائماً على حافة نزاعات، وحرب أوسع. 
 ومن منظور المصلحة الأمريكية العليا لا يمكن تجاهل أن للولايات المتحدة مصالح عليا تحتاج إلى أن تدافع عنها، أبرزها بقاء أمن إسرائيل، وثانياً مواجهة إيران وطموحاتها النووية التي تشكل تهديداً لمصالح أمريكا حتى خارج المنطقة.
 وليس الملف النووي هو الوحيد الذي سيفرض على الإدارة الجديدة مراجعة الموقف الأمريكي.. عليها إجراء حوار واسع مع دول مجلس الأمن، وبين دول المنطقة، لتقليل درجة التوتر وإدارة عدم الثقة. وبناء الثقة يحتاج إلى دور خارجي مؤثر في سياق البحث في قضايا الحرب في اليمن وسوريا وليبيا، وقضايا تتعلق بالأمن البحري في الخليج، والبحر الأحمر. والعمل على إنهاء الحروب بالوكالة، والاتفاق على تقليص ترسانة الصواريخ الباليستية، وهي القضايا التي فرضت تواجداً أمريكياً في المنطقة.
 الإشكالية الكبرى التي تواجه السياسة الأمريكية تتمثل في القدرة على التوفيق ما بين تقليص وجودها العسكري وبين الحفاظ على مصالحها الحيوية. والحفاظ على قوة الردع مع الدول الأخرى في المنطقة مسألة لا يمكن للولايات المتحدة التخلي عنها والذهاب لمناطق استراتيجية أخرى كشرق آسيا، أو القارة الأوروبية. إذ تبقى منطقة الشرق الأوسط منطقة قلق استراتيجي لها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"