مطلوب كشف الأسباب والمسبّبين

00:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

انعقد منذ بضعة أسابيع المؤتمر السنوي العالمي لللاقتصاد في منتجع دافوس الشهير في سويسرا. وكالعادة ركزت وسائل الإعلام على خطابات كبار ساسة العالم الذين يكررون  قول ما يسمع الإنسان من أقوالهم طيلة العام. وجلّ ما يهم أغلبيتهم هو دغدغة مشاعر ومعتقدات شعوبهم، وبلدانهم، والتهيئة لإعادة انتخابهم، أو لبقائهم في وظائفهم المريحة. من هنا تألق نجومية أمثال رئيسة وزراء ألمانيا، ورئيس جمهورية الصين، ورئيس إفريقيا الجنوبية، ورئيس وزراء الهند، والأمين العام لهيئة الأمم. ولعل الانشغال بجائحة كورونا هو الذي يفسر قلة غياب بعض السياسيين في مؤتمر هذا العام.
   وكالعادة أيضاً، اهتمت وسائل الإعلام بما يقوله الحاضرون من رؤساء المؤسسات الاقتصادية العالمية، والخاصة، ومن مالكي ثروات المليارات في هذا العالم، ومن الاستشاريين الاقتصاديين المرضي عنهم. إن نظرة خاصة على جدول الأعمال تظهر اهتماماً بالمشاكل الكبرى المزمنة من مثل تدهور بيئة الأرض، والبطالة، ومسؤوليات الشركات الخاصة الاجتماعية، وقضايا وإمكانات التطورات التكنولوجية الهائلة، كما تظهر اهتماماً بالمشاكل المستجدة من مثل تأثيرات جائحة الكورونا في الاقتصاد العالمي، أو الصعود المذهل لموضوع الأمراض العقلية كخطر وكأولوية للمجابهة.
  لكن الملاحظ أن أغالبية الأطروحات والمناقشات تركز على تشخيص الأمراض وتقديم مقترحات حلول جزئية، أو مؤقتة، أو سطحية، من دون أن تتعمق في الأسباب الحقيقية، والإشارة إلى المسبّبين الحقيقيين.
  ولذلك سيسمع المهتم ويقرأ عن نواقص أوضاع الاقتصاد العولمي، وعن تحسين بيئة وإنجازات القطاع الخاص، وعن آثار التطورات التكنولوجية في الاقتصاد، وعن محاولات التعاون الدولي المحدود في شؤون التجارة الدولية.. إلخ من مواضيع مماثلة، وسيستمع أو يقرأ عما يشبه النصائح والترجيات لأرباب القطاع الخاص ليساهموا في تقليل الفاقة والبؤس والبطالة التي يرزح تحتها مليارات فقراء العالم.
  لكن الفلسفة والمسلمات الخاطئة، ومقررات الجامعات، واستنتاجات مراكز البحوث التي تقف وراء ما يقود الأزمات الاقتصادية الدورية والى تلك المشاكل التي يبحثونها ويعلكونها سنوياً ويستفرغونها كلاماً منمقاً وأمنيات ساذجة، فإنها لن تكون موجودة في جدول الاجتماعات.
   من هنا، لا تبحث مسلمات ونواقص وادعاءات الفلسفة النيوليبرالية الرأسمالية العولمية المتوحشة، ولا تعتبر نتائج تركز الثروة في أياد قليلة، بحيث يملك واحد في المئة خمسين في المئة من ثروة العالم، كقضايا أخلاقية وإنسانية وحقوقية، ولا يجرؤ من يتحدى قدسية المقولة بأن قانون السوق، قانون العرض والطلب والمضاربات المجنونة والتنافس التصارعي القاتل، هو وحده الذي يجب أن يحكم مسيرة الاقتصاد الوطني والدولي.
  والسبب واضح، إذ إن قسماً كبيراً ممن يحضرون ويشخصون ويقترحون الحلول هم من المسببين، ومن جاني الثمار، أو ممن يخدمونهم كتابة ونشراً لفلسفة الاقتصاد العولمي الجديد وإدارة لكل مؤسساته المالية.
  ومن المؤكد أنه لو تجرأت المؤسسة الداعية لمؤتمرات دافوس ووضعت على جدول الأعمال مواضيع تؤدي إلى إجراء تغييرات جذرية في فلسفة وممارسات النظام الرأسمالي العولمي الجائر، وبالتالي التفتيش عن نظام اقتصادي أكثر عدلاً وإنسانية وأخلاقية، فإن أغلبية المواظبين على الحضور السنوي، من نوع السياسيين والأثرياء وحاشية الدعم والخدمة والتطبيل الذين يكتفون بمس السطح، ويتجنبون المساس بالجذور، فإن هؤلاء لن يحضروا، بل وسيكيلون الاتهامات لمؤتمرات دافوس.
  ما يثير الاستغراب هو إصرار الحضور على فصل الاقتصاد عن السياسة. فبالرغم من الحروب والصراعات وملايين الشعبوية العدائية والخلافات السياسية والإعلامية فيما بين دول القيادة والتأثير في هذا العالم، تصرّ روحية نقاشات دافوس على فصل الاقتصاد عن السياسة والاجتماع والثقافة والفلسفة، لتجعل من نظام الاقتصاد العولمي النيوليبرالي السوقي (من السوق) صنماً مقدساً لا فكاك منه. فمنذ سنين والعالم يتكلم عن ظاهرة دافوس المحيرة، لكن دافوس تظل في صمت مطبق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"