عادي

الخوف من الانفتاح

22:34 مساء
قراءة 6 دقائق
3

القاهرة: محمد زكي

في عام 1991 وقع اختيار الاتحاد الدولي للمترجمين على يوم 30 سبتمبر، ليكون يوماً عالمياً للمترجم، وهو اليوم الذي يوافق وفاة القديس جيروم (مترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية)، كذلك وقع اختيار العرب على أن يكون يوم المترجم العربي في 20 نوفمبر، وهو يوم «حنين بن إسحاق» الذي نقل الترجمة السبعينية للتوراة من اليونانية، كما ترجم كتب الطب والفلسفة اليونانية إلى العربية، وكان معروفاً عند مترجمي العصور الوسطى المسيحية في أوروبا.

عرف العرب الترجمة منذ عصور بعيدة، وكان بعض الألفاظ ينقل من الفارسية إلى العربية، لكن لم تبدأ حركة الترجمة الفعلية إلا في العصر الأموي، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية في العصر العباسي، بلغت الحاجة إلى الترجمة درجة كبيرة، دفعت العرب إلى ترجمة علوم اليونان من طب وفلك ورياضيات وموسيقى وفلسفة ونقد، وبعض الآداب، وبدأت هذه الحركة في شكل محاولات فردية، منها على سبيل المثال أن «خالد بن يزيد بن معاوية» وجه بترجمة كتاب في الكيمياء، عن اللغة اليونانية، ثم توالت الترجمات في الطب والفلك والمنطق.

وقد قسم «أحمد أمين» هذه الحركة إلى ثلاث مراحل: الأولى بدأت مع خلافة المنصور، واستمرت حتى عصر الرشيد، وترجمت خلالها كتب عن الفارسية والهندية واليونانية، كما شملت ميادين أهمها الطب والأدب والفلسفة والفلك والرياضيات، وفي هذه المرحلة أنشئ «بيت الحكمة» وتميزت المرحلة الثانية بالتنظيم والتخطيط، بمبادرة من الخليفة المأمون، وشملت كافة الموضوعات، أما الثالثة فقد استمرت من أوائل القرن الرابع إلى أواخره، وفي كل الأحوال كانت الترجمة مكوناً أساسياً من مكونات ثقافة العرب.

تحولات

على نحو آخر شهدت الترجمة تحولات كبيرة، رصدها الناقد المغربي «عبد الفتاح كيليطو» في مجموعة من النقاط، حيث يرى أن الثقافة العربية خضعت لتقويمين زمنيين: الهجري في البداية، ثم الميلادي بعد ذلك، وهو ما أدى إلى «انقسام في الذاكرة العربية إلى ثلاث حقب: حقبة أولى ذات ملامح مميزة، وحقبة ثانية تتسم بسبات عميق، وحقبة ثالثة فقدت فيها الذاكرة العربية معالمها المألوفة، وانخرطت داخل ذاكرة أخرى، ذاكرة أكثر قوة، وأكثر قدرة على استلاب هوية الآخر ومحو تراثه ومقوماته الحضارية».

كان العرب في الحقبة الأولى ينظرون إلى الآخر باستعلاء، لإيمانهم بمركزية الثقافة العربية وقوتها، وإحساسهم الكبير بالتفوق، فقد فرضت الحضارة الإسلامية نفسها على الشعوب والأمم في ذلك الوقت، ويؤكد كيليطو: «إن القدماء لم يكتفوا بالاستهانة بالترجمة، ونبذها من تفكيرهم، بل حرصوا على جعل مؤلفاتهم، غير قابلة للتحويل، فطوروا صياغات وطرقا في التعبير، وأساليب تستعصي على النقل، لعل أحسن مثال على ذلك مقامات الحريري؛ فهو كتاب تقول كل عبارة من عباراته: لن يستطيع أحد ترجمتي، أو نقلي إلى غير اللغة العربية».

وإذا كان القدامى قد كتبوا بأسلوب أكثر تعقيداً، حتى تصعب ترجمته، فإن الأدباء المعاصرين عكس ذلك تماما، إنهم يكتبون وفي ذهنهم عملية الترجمة، ولذلك يهيئون نصوصهم مسبقا لعملية الترجمة، بل إن منهم من يكتب بغير العربية، على أن يترجم هو نفسه ما قد كتبه، وفي حالة أخرى يكتب بالعربية، وفي ذهنه أن مترجماً محتملاً، سينقل هذا النص إلى لغة أخرى.

الترجمة في التاريخ العربي موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة، وعلى الرغم من التباهي بعصر الترجمة في الدولة العباسية، وكذا حقبة الترجمة في العصر الحديث، وقد بدأت في مصر، مع مطلع القرن التاسع عشر، فإن الترجمة كنشاط اجتماعي، تعكس إشكاليات كبيرة، ويتصارع بشأنها رأيان، فالبعض يراها خطراً وغزواً فكرياً وثقافياً، بينما يراها آخرون، وهم دعاة التحديث، شرط النهضة، وفي المقابل هناك من يفتح الباب على مصراعيه، دون استراتيجية واضحة، ويكون الهدف تجارياً للاستهلاك فقط.

 مغامرة إنسانية

يؤمن كثيرون بأن الترجمة ليست نقل معارف فحسب، بل هي تواصل حر بين الحضارات، ولا يكون هذا التواصل مفيداً، إلا حين تؤرقنا روح المغامرة الإنسانية، لاستيعاب إنجازات العلم، من أجل تغيير الواقع، وإذا لم نفعل ذلك فإننا نكون بمثابة ناقلي نصوص، والترجمة ليست مجرد نقل نص من لغة إلى أخرى، بعد الرجوع إلى القواميس، الترجمة بحث شامل متواصل من أجل نقل حضارة وفكر وثقافة وأسلوب وروح ووعي، لذلك تواجه الترجمة إشكاليات، منها: اختلاف المعادل من حيث المعنى، فقد لا يكون القالب اللغوي في اللغة المنقول إليها النص قادراً على التعبير عن المعنى الموجود في النص الأصلي بشكل صحيح، خصوصاً عند الترجمة بين لغتين مختلفتين من الناحية الثقافية.

من إشكاليات الترجمة أيضاً اختلاف البنية اللغوية والتراكيب، فكل لغة لها خصائصها التي تميزها، وتلعب الإشارات التاريخية والدينية والجغرافية والاختلافات اللغوية دوراً كبيراً في دقة الترجمة، وهناك من يرى أن عملية الترجمة، لا تقف عند إلمام المترجم باللغتين، بل عليه أن يتذوق الأدب، بالإضافة إلى الموهبة الأدبية والمعارف اللغوية واللسانية، لذلك تعد ترجمة الأعمال الأدبية الشعرية والقصصية والمسرحية صعبة.

قدرات خاصة

تتطلب ترجمة الأعمال الأدبية من المترجم قدرات فائقة، تمكنه من إنتاج نص يُظهر روح وجمال النص المنقول، ما يجعل مهمة المترجم صعبة، وهنا يرى الجاحظ (في كتابه الحيوان) استحالة ترجمة الشعر (مثلا) بل يؤكد أنها خيانة: «الشعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُول، تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب».

ورغم ما يعرف عن الترجمة من أنها خيانة، يؤكد الجاحظ: «وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسناً، وبعضها ما انتقص منه شيء» أي لم تضره الترجمة، ولم تنقص من قيمته، هذا إذا لم تزده حسنا، ويقول أيضا: «لو حولت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها، لم يجدوا في معانيها شيئاً، لم تذكره العجم، في كتبهم، التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم».

ويقصر طه حسين صعوبة الترجمة، على ضرورة أن يتقمص المترجم شخصية المؤلف، وفي ذلك يقول: «كلاهما صعب عسير، الأول أن يشعر المترجم بما شعر به المؤلف، وأن تأخذ حواسه وملكاته من التأثر والانفعال نفس الصورة، التي أخذتها حواس المؤلف وملكاته، إن صح التعبير، والثاني أن يحاول المترجم الإعراب عن هذه الصورة، والإفصاح عن دقائقها».

يقارن طه حسين بين مؤلف النص والمترجم، وهذا ما يؤكده أحمد حسن الزيات حين يقول: «إن الترجمة أشق من التأليف، لأن المؤلف ينقل مباشرة من ذات نفسه إلى قلمه، أما المترجم فإنه ينقل من لغة تخالف لغته كل الاختلاف، في تأليف الجملة، ونظم الأسلوب، وتصوير الطبيعة والبيئة، على مقتضى التربية العقلية والحضارة، فجهده الأول تطويع اللغة العصية، لقبول المعاني الأجنبية».

تبعية 

يرى شوقي جلال أن مناهضة الترجمة، والخوف من الانفتاح على العالم، هو موقف مؤسس على ثقافتنا الاجتماعية، التي ترتكز على ثنائية نقيضة، إما الانزواء، أو الانطلاق من مواقع الهيمنة، ثقافة تقبل التجانس مع ذاتها فقط، إما أنا أو الآخر، ومناهضة الترجمة موقف داعم لحالة التبعية، وهي هنا تبعية ثقافية للماضي، ولقوى أجنبية.

الخوف من الترجمة دعوة للانغلاق والجمود، ولهذا فإن الدعوة إلى دعم مجال الترجمة، بحاجة إلى إجابة عدد من الأسئلة: ترجمة ماذا؟ ولماذا؟ إذ يختلف الأمر حين يكون نشاط الترجمة، رهن تطوير وتحديث وتحرير اجتماعي ونهوض علمي، وبين أن يكون استهلاكاً وترفاً.

وإذا ما استعرضنا واقع نشاط الترجمة في العالم العربي، فإننا نلحظ قصوراً شديداً من حيث الكم والنوع، ونلحظ فقدان التوازن بين المعارف المتنوعة، وتكشف المقارنات عن أن البلدان العربية غير موحدة الهدف والرؤية، لذا تأتي الإصدارات: تأليفاً وترجمة، تعبيراً عن حالة التشتت المعرفي والمستقبلي، ونجد تضارباً بين الحاجة الاجتماعية والفعل، لذا نحن في حاجة إلى توحيد وتنسيق نشاط الترجمة، ولن يتأتى هذا إلا إذا اقترن برؤية عربية واضحة الأهداف، فاعلة ومبدعة ومنتجة.

ندرة

هناك مشكلة خاصة بندرة الترجمات العلمية، التي تعد انعكاساً لأزمة المجتمع، فهي ينبغي ألا تخضع لاختيارات فردية أو عشوائية، وإنما توفر رؤية استراتيجية تنموية شاملة، والمأساة أننا نعيش التناقض بين العلم واللغة العربية، وقد حصرنا المشكلة في المصطلح العلمي، وراج القول إنها مشكلة لغة، دون أن نرى أن الإنسان يكون علمياً، بفضل نشاطه العلمي، وليس بما يمتلكه من مفردات، فالكلمات تالية للنشاط، والمجتمعات التي تقدمت هي تلك التي طوعت النشاط العلمي للغة، لكننا ننظر إلى اللغة في انفصال عن النشاط الاجتماعي، كأن لها وجودها المستقل، ومن ثم نظن أن العيب في اللغة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"