اللقاء الأخير مع هيكل

01:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

بعد خمس سنوات من رحيله تأكد حضوره رغم الغياب، فالأفكار تبقى بعد أصحابها والتجارب تلهم لآماد طويلة بقدر ما تنطوي على معنى وقيمة. وهو على سرير المرض الشديد حاول أن يستدعي أسلحته التقليدية في مقاومته.

معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها، ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه.

بادرني بسؤال واحد: «قل لي ما الذي يحدث؟».

 جلست على مقعد بجوار سريره أروي وأتحدث، وهو نصف ممدد منتبه للمعاني من وراء الأخبار ولا يخفي قلقه على مستقبل البلد ومصيره.

 على مقربة من سريره كتب غربية صدرت حديثاً كان قد بدأ في قراءتها، وبعض الجرائد اليومية المصرية، وشاشة التليفزيون مفتوحة على محطة ال«C.N.N» الأمريكية الإخبارية.

 في غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شيء بسيط وذوقه خاص واللون الأبيض سيد المكان.

من حين لآخر تدخل السيدة قرينته «هدايت تيمور» تطمئن على تناوله الدواء وتسأل إذا ما كان هناك شيء يطلبه.

كانت تخشى من إنهاك الحديث، وهو يريد أن يدقق في المعلومات، يسأل في الخلفيات ويستقصي الأبعاد. حتى لحظاته الأخيرة ظل مخلصاً لمهنته، التي لم ير لنفسه مهنة سواها.

حاول أن يتحدث ويعلق ويحلل كما اعتاد على مدى حياته العامة الطويلة، غير أن المرض الشديد عانده بقسوة.

 لم يكن بوسعه، وهو على ذلك الحال، أن يتذكر ما كتبه عن لقاء أخير مع الزعيم الهندي التاريخي «جواهر لال نهرو»: «كان على عادته، حتى وهو على فراش المرض، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور». كان هو الرجل نفسه، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور حتى النفس الأخير.

 استأذنته أن الوقت حان للتفكير في «تنظيم الطاقة الإنسانية». أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومي دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأي فيما يجري عليها من تفاعلات وحوادث.

 علت ابتسامة خفيفة على وجهه المتعب: «لماذا التنظيم؟».. «سوف أمتنع عن أي نشاط وكل حضور حفاظاً على صورتي». سيطرت على وجدانه فكرة أن وقت الرحيل قد حان، كأنه رسم خطاً في فضاء الغرفة: «هنا النهاية».

 انتهت القصة كلها عندما استشعر بعمق أن طاقته الإنسانية استنزفت إلى حد يصعب معه أن يحيا بالأسلوب الذي انتهجه في العمل والإنتاج والتأثير شاهداً وشريكاً في الأحداث والتحولات الكبرى التي شهدتها مصر منذ ثورة (١٩٥٢) بجوار زعيمها «جمال عبدالناصر»، ومع خلفه «أنور السادات» حتى حرب أكتوبر (١٩٧٣)، وما بعدها من انقلابات دراماتيكية في السياسات والتوجهات حتى (٢٥) يناير (٢٠١١) وما تلاها من انقلابات دراماتيكية أخرى كان شاهداً عليها ومؤثراً فيها.

معنى الحياة انتهى عند رجل يدرك فلسفة الوجود الإنساني وقيمة كل دقيقة في وضع بصمة، أو التأثير في حركة.

 قبل آخر إطلالة تليفزيونية على شبكة (cbc) قرب نهاية (٢٠١٥) لم يكن متحمساً لأي حديث جديد. تساءل: «ألم يحن الوقت للتوقف النهائي عن مثل هذه الحوارات؟».

 قلت: «أرجوك ألا تفعل ذلك، طالما أعطاك الله الصحة والهمة فلا تتوقف». سأل مرة أخرى: «لماذا؟». قلت: «معنى الحياة».

 ردد الجملة مرتين، ثم صمت كأنه في حوار داخلي لا شأن له بما حوله. كان لا يهدر وقتاً فيما لا طائل منه، والحياة بلا دور كأنها موت مؤجل.

 أراد أن يرحل على الصورة التي حرص عليها طوال حياته ورسم بدأب أدق تفاصيلها.

قرب النهاية لم يأبه بالقيود المفروضة على حركته بعد عملية جراحية في عنق فخذه الأيمن إثر سقوط من فوق درج في «الغردقة» أثناء إجازة عيد أضحى.

حاول بقدر ما يستطيع أن تمضي الحياة على وتيرتها السابقة رغم مصاعب الحركة ب«الووكرز»، الذي استعان به في حركته حتى يأمن أية مفاجآت.

 كان واضحاً أمام نفسه قبل الآخرين وهو يقول: «لا يهمني إن ظهرت صوري وأنا أمشي بالووكرز».

لم يجد غضاضة أن يظهر في أماكن عامة على هذه الصورة، بعضها دور مناسبات، وبعضها أماكن فائقة الأهمية.

في تلك الظروف خطر له أن يطل على الأندلس بعد ثلاثين سنة من آخر زيارة وذكرياته فيها لا تغادر مخيلته.

كانت أجراس الزمن تدق في المكان مرحبة باقتراب عام (٢٠١٦). بدا مسحوراً بجمال الأندلس وإرثه الحضاري كأنه يراه لأول مرة.

في كل مكان أثر جليل من تاريخ أمة عريقة ارتبكت هويتها وضاعت بوصلتها وجرفت نظرية أمنها القومي.

 هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟ فكر في اليونان وأماكن أخرى لكن شيئاً ما دعاه إلى الأندلس، كأنها رحلة وداع لكل معنى أهدرناه. من وداع في الأندلس إلى الوداع في القاهرة تداعى كالجبال في أيام قليلة.

قبل أن يفارق الحياة اتصلت بي السيدة قرينته قائلة: «طلب أن يراك مرتين لكن حالته لا تسمح بأي لقاء.. أردت أن أقول لك ذلك حتى أبرئ ذمتي أمام الله وأمامه».

لم أكن أعرف وأنا أنحني على جبينه مقبلاً، وهو على سرير مرضه الشديد، أنه اللقاء الأخير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"