عادي

«حظر تجول» تناول سلس وبوح صامت

22:38 مساء
قراءة 5 دقائق
1
1

مارلين سلوم
كل فيلم يعرض في مهرجانات دولية نتشوق لمشاهدته على الشاشة، خصوصاً إذا نال نصيباً من الجوائز وتقدير لجان التحكيم والنقاد، فيكبر رصيده لدينا بشكل تلقائي، وتكبر لهفتنا للاستمتاع بمشاهدته. هذه اللهفة لا تعني أن يجد الفيلم إقبالاً جماهيرياً واسعاً في الصالات، ونحن في ظل الإجراءات الاحترازية التي يفرضها الوباء، لم نعد نتوقف عند الأرقام التي يسجلها شباك التذاكر، والأرباح التي يجنيها أي فيلم كمعيار لمدى نجاحه. ومن الأفلام التي تشوقنا لمشاهدتها، الفيلم المصري الوحيد الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 
ال42 التي عقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، «حظر تجول» لأمير رمسيس، واستحقت عنه إلهام شاهين جائزة أفضل ممثلة.
بعض العبارات يرددها صنّاع الأفلام وأبطالها كنوع من الدعاية والتشويق للجمهور؛ كي ينتظر العمل ويُقبل عليه فور ظهوره، مثل «قصة لم تتناولها السينما من قبل» أو «دور جديد لم أجسده من قبل». وتتلقفك الصدمة في الأغلب؛ حيث تجد أمامك تكراراً للقصة والأحداث والأدوار وربما الأداء. في «حظر تجول» أنت أمام عمل يدفعك للتصفيق للفكرة والقصة وطريقة تناولها كتابة وإخراجاً، والتمثيل المكمّل لجمالية الحالة، والتصفيق أيضاً لعمل «جديد» بكل معنى الكلمة، ولا ينتمي لفئة إعادة تدوير الأفكار البالية والمستهلكة.
جريء أمير رمسيس مؤلف ومخرج «حظر تجول»، فقد غلف قضية فيلمه بقضية أخرى وقدمها بعنوان عن حظر تجوّل ساد لأسباب أمنية وسياسية في مصر خلال عام 2013، بينما القصة كلها عن حظر آخر، أخلاقي واجتماعي وإنساني. إنها جريمة زنا المحارم التي تعيشها بعض العائلات وهناك من يطويها ليعض على الجرح خوفاً من الفضيحة، أو خوفاً من الجاني. إنها قصة فاتن (إلهام شاهين) التي نراها تستكمل إجراءات خروجها من السجن في خريف 2013، ومعها حسن (أحمد مجدي) الذي لا نفهم في البداية العلاقة التي تربطه بها، ثم نكتشف أنه زوج ابنتها ليلى (أمينة خليل) التي تنتظرهما في الخارج. اللقاء بعد عشرين عاماً من السجن بارد وجاف، فليلى ترفض تقبيل أو احتضان والدتها، بل ترفض حتى مناداتها إلا باسمها فاتن وكأنها تسقط عنها تماماً صفة الأمومة.

الصورة
1

الفيلم كله يدور في يوم وليلة، وهي مدة كافية لنعيش أجواء الحاضر والماضي، نكتشف كل الأسرار ونفهم سر قسوة ليلى على والدتها، وسبب قتل فاتن لزوجها على الرغم من تكتمها الشديد ورفضها البوح بالسر لأي كان، خشية أن تعرف ابنتها بالقصة. وهذا الكتمان هو الذي يزيد من رفض الابنة لأمها ويعمّق الفجوة بينهما، ويدفع بليلى إلى تصديق الشائعات التي أطلقها الناس قبل عشرين عاماً، بأن فاتن كانت على علاقة بجارها يحيى (كامل الباشا) واكتشف زوجها خيانتها فقتلته. يحيى فعلاً يحب فاتن إنما بصمت، وهو الوحيد الذي علم بسرها ووقف إلى جانبها وواظب على زيارتها في السجن طوال السنين، ولم ينقطع سوى في السنتين الأخيرتين بسبب المرض.
عيون الكاميرا
كلما تحدثت عن تفاصيل الفيلم وأحداثه، شعرت بأنك تنقصه حقه، وتنقصك تفاصيل لا يمكنك شرحها؛ لأنها محبوكة بروح الأداء وأجواء المكان وعيون الكاميرا التي تلتقط المشاعر فتقدمها لك وكأنها مشاهد ناطقة بكل ما يفيض به القلب والروح. إنه البوح بصمت، أمير رمسيس مبدع في تناول قضية مهمة وصعبة ليقدمها بسلاسة وهدوء، لا فجاجة في تفاصيل قضية «فجة»، لا وقاحة في عرض سلوكات «وقحة»، ليس هناك أي نحيب أو صراخ أو عويل في تقديم قضية تنزف فيها امرأة من داخلها ويعتصر الألم قلبها. وكما شخصية فاتن التي تجمع القوة والضعف، الجرأة والخوف، يجمع الفيلم بين الجرأة في طرح إحدى قضايا زنا المحارم، والحذر في تقديم الحقائق مبطنة، مفهومة من دون تصريح وبلا كلام، الإيحاء ينجح في إيصال المعلومة للمشاهد ويغني عن الدخول في تفاصيل لا لزوم لها، لأن المهم هو كيفية معالجة القضية، والأهم كسر الخوف في مثل هذه الحالات والمواجهة؛ كي لا يدفع الأطفال الثمن.
طبعاً ليس المقصود بالمعالجة أن يذهب المرء إلى حد القتل، إنما رمسيس أراد تقديم واحدة من تلك الجرائم وكيف أنها تغيّر مصير عائلة بالكامل. و«حظر تجول» هو في الحقيقة «حظر الكلام» في بعض الجرائم الاجتماعية أو العائلية، ودعوة لكسره ومواجهة الواقع؛ بل هو فيلم من قلب الواقع، بلا مبالغة وبلا حشو وثرثرة، ومن جمالياته أنه يقدم القضية الشائكة بسلاسة متناهية وهدوء، يضحكك ويبكيك، والأهم أنه لا يتسبب لك في اكتئاب أو اشمئزاز، لا ابتذال فيه ولا «وقاحة»، وكأنه تعمد تغليف الحزن بالبهجة، ليزرع فيك الأمل طوال الوقت.
تعاطف مع الأم
إلهام شاهين تؤدي أحد أهم أدوارها، بلا انشغال بأناقة وأزياء وشكل، ومثلها أمينة خليل التي بدت طبيعية جداً وفي بعض المشاهد بلا ماكياج. إلهام الشديدة النضج في «حظر تجول» تجبرك على احترام هذه الأم والتعاطف معها منذ المشهد الأول، وقبل أن تكتشف الأسباب التي دفعتها لارتكاب جريمتها. مرحة وحزينة، قوية وضعيفة، تركيبة تفهمها كل أم، فيها من الشراسة ما يدفعها لمواجهة أي خطر، وفيها من اللين والطيبة ما يحولها إلى كتلة حنان، وفي الحالتين هي مستعدة لحماية ابنتها وحفيدتها من أي مكروه أو خطر.
إن تحدثنا عن النهاية سنكشف عن سر فاتن، علماً أن المخرج نفسه أراد أن يحتفظ به ورفض البوح بأي من تفاصيله إلا بالرموز والإيحاء الذكي حتى المشهد الأخير والنظرة الأخيرة بين الأم وابنتها. ومن الممتع أن يكتشف المشاهد القضية بنفسه، ويعيش متعة الحوار المتبادل بين فاتن وليلى، والذي يأخذ الحيز الأكبر من الفيلم. ولا شك أن العبارات التي صاغها رمسيس جميلة ومؤثرة، منها مثلاً قول الأم لابنتها: «أهم حاجة كانت فارقة معايا وأنا محبوسة، الاختيار؛ أنت اخترتي ماتشوفينيش، إنما أنا من حقي أشوفك واطمن عليكي». وحين يحاول حسن إقناع زوجته بتقبّل وجود أمها معهم وأن تتحملها لمدة 12 ساعة فقط بسبب حظر التجول وعدم قدرتها على الذهاب إلى طنطا قبل صباح الغد، تقول له: «روحي بتتاخد مني لما أبصّ في وشها».
لا يحتاج الفيلم إلى عدد كبير من الممثلين والكومبارس، فأغلب المشاهد كانت بين إلهام شاهين وأمينة خليل وثالثهما أحمد مجدي. وتميز في الأداء أيضاً الممثل الفلسطيني كامل الباشا بدور يحيى العاشق الأبدي، الذي ما يزال يعيش على ذكرى حبه وأغاني عبد الحليم حافظ. وإلى جانب هؤلاء الأبطال، هناك مشاركة لعارفة عبد الرسول، محمود الليثي، أحمد حاتم وظهور خاص للمخرج خيري بشارة.
إلهام شاهين في قمة النضج الفني وأمينة خليل طبيعية

 [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"