السياسة ومعضلة الأحكام المسبقة

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تمارس الأحكام المسبقة دوراً مؤثراً في توجيه الفعل السياسي، وتشير مثل هذه الأحكام، إلى الآراء التي يتم تبنّيها بعيداً عن كل معلومة دقيقة وبمعزل عن كل ممارسة تطبيقية تثبت صحتها، وقد تكون الأحكام المسبقة مرتبطة  في أحايين كثيرة  بتصورات نابعة من تعميمات متسرِّعة. ومن الواضح أن الأحكام المسبقة تكون في الغالب، بمثابة أفكار مقبولة لدى عدد كبير من الأشخاص، دون دليل، ويتعامل أصحابها مع مضامينها على أنها تمثل حقيقة تتجاوز المسلمات. وكان تصور ديكارت للإنسان بوصفه كائناً كامل الحرية، هو الذي وجّه إرادته نحو «مسح طاولة» الماضي، وقاده إلى نقد الأحكام المسبقة للتمييز بين الخير والشر، وقد مثل ذلك نقطة تحوّل أساسية بالنسبة لعصر الأنوار، كما يشير إلى ذلك لوك فيري.

وتكمن خطورة الأحكام المسبقة في إمكانياتها الهائلة على عبور الأزمنة، مع المحافظة على قدرتها على التأثير في الوعي الجماعي، وتجد النخب الفكرية صعوبة بالغة في تجاوزها أو في تعطيل قدرتها على توجيه مواقف البشر. وتمثل الأحكام المسبقة بشأن «ضعف» المرأة وكفاءتها «المحدودة» في تسيير الشأن العام، أكثر الأحكام انتشاراً بين الناس، على الرغم من التجارب السياسية العديدة التي أثبتت أن للمرأة قدرة مدهشة على القيادة، سواء في الهند مع أنديرا غاندي أو في باكستان مع بينظير بوتو، أو في بريطانيا مع مارجريت تاتشر، أو في ألمانيا مع أنجيلا ميركل.

وتختلف الأحكام المسبقة في مجال السياسة الدولية باختلاف البلدان والقارات، فهناك داخل القارة الواحدة، صراعات لا ترتبط فقط بالنزاع على الحدود، وبالتنافس الاقتصادي، ولكنها تتصل أيضاً بالأحكام المسبقة التي يصدرها شعب على شعب آخر، كما يحدث على سبيل المثال، بين مواطني الصين والهند واليابان وكوريا في آسيا، وكما حدث سابقاً بين الشعوب الأوروبية قبل الحربين العالميتين. 

والشيء نفسه يُمكن أن يقال عن الصراع بين القوى الكبرى التي تتمسك كل واحدة منها بأحكام مسبقة تتعلق بالقوة المنافسة لها. فالغرب بزعامة الولايات المتحدة، ينظر إلى الصين على أنها دولة لا تحترم قواعد المنافسة، وتمتلك قدرة محدودة على الإبداع، وتقوم بالسطو على الملكية الفكرية، بينما تنظر الصين إلى أمريكا على أنها دولة «متعجرفة» توظف أموال وعقول شعوب أخرى للمحافظة على هيمنتها.

كما قد تلجأ  في السياق نفسه  مجتمعات لها تأثير واضح في الحضارة المعاصرة، إلى الترويج لأحكام ليست خاطئة بالضرورة، ولكنها لا تستند إلى دراسات موضوعية؛ إذ ينظر بعضها إلى الشعب الإنجليزي على أنه شعب نفعي يمتلك أحاسيس باردة، وينظر البعض الآخر إلى الشعب الفرنسي على أنه مجادل وذاتي في أحكامه. ويعتقد كثير من الناس أن الشعب الألماني صارم ومنضبط ويبالغ أحياناً في استعماله للشدة. ونجد في المقابل أيضاً، العديد من الأحكام المسبقة التي تُطلقها شعوب المنطقة العربية على جوارها القريب والبعيد، سواء كانت ذات مضامين سلبية أو إيجابية، شبيهة بتلك التي يُصدرها كل شعب على سكان منطقة أو محافظة داخل بلاده.

وتتعدى الأحكام المسبقة مجال الحس المشترك الذي نلفيه لدى العامة، فهناك مفكرون أسهموا في الترويج للأحكام المسبقة، حيث تبنى أرسطو أحكاماً قاسية تجاه المرأة، والأمم الأخرى، ولم يتردد في المرحلة الحديثة مفكر مثل ألكسيس دو توكفيل، الذي اشتهر بدفاعه عن الديمقراطية، في تبرير عنصرية البيض تجاه السود في أمريكا، وفي تأييد احتلال فرنسا للجزائر انطلاقاً من أحكام مسبقة.

ونستطيع أن نستنتج بناء على ما تقدم، أن الأحكام المسبقة تمثل آراء  تستند إلى ملاحظات غير دقيقة وإلى أقوال يصعُب التحقق من صحتها؛ لأنها تنطلق من دوافع ذاتية، ويعود انتشارها السريع إلى كونها أكثر خدمة لمقتضيات المواجهة والصراع بين الدول. فإذا كانت المبادئ بحاجة ماسة لأن يتم إثباتها والدفاع عنها، واحترامها  وقد لا تُوفر بالضرورة لأصحابها الشروط الكافية للنجاح السياسي  فإن الأحكام المسبقة تظل جاهزة للاستعمال بالنسبة لرجال السياسة؛ كونها تمتلك قبولاً مسبقاً لدى قطاع واسع من الرأي العام، وهذا ما يجعلها تؤثر سلباً في أمن الدول وفي مصداقية العلاقات الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"