عادي

المتلقي..بطل العصر

23:32 مساء
قراءة 6 دقائق
3

القاهرة: مدحت صفوت

استقر تقريباً الحوار مع العملية الإبداعية بوجه عام من خلال ثلاثة خطابات يحملها بين جمله وتراكيبه ورؤيته، هذه الزوايا الثلاث تخرج من ثلاثية المبدع والنص والمتلقي، فالمبدع ذلك الحائر بين الظهور والخفاء، بين الحضور والغياب، السرمدي الساكن خلف حروف مطبوعة، ورؤية كامنة وشبه مستقرة، والنص القادر على حمل تلك الهموم بجانب إشكالية الصياغة وطرائق التعبير وأنساق الكتابة، كل ذلك يصب عند متلقٍ مستعد ومتحفز ومهيأ للاشتباك، الاتفاق، الاختلاف، القبول، والرفض.

مع تطور الرؤى والنظريات النقدية، ألغت ما بعد الحداثة التمايز التقليدي والاعتيادي بين جنس الكتابة الأدبية وأجناس الكتابات الأخرى، خاصة الكتابات التحليلية والنقدية والأنواع الاستطرادية الأخرى، ليصبح النقد الأدبي مادة أدبية مقروءة.

هنا، يرى الناقد الأسترالي ديفيد بشبندر، أن ذلك التميز الملغى من قبل ما بعد الحداثة، يعتمد أولًا على الحضور الخفي؛ أي على فكرة أن للكاتب في الأدب حضوراً حقيقياً في النص، بينما يختفي الناقد في الكتابة النقدية وراء النص الأدبي، والأخير يعتبر أولياً في ما يتطفل عليه النص النقدي. ومن ثم رفضت ما بعد الحداثة اعتبار النقد مجرد تفسير تقليدي ينبع من مرجعية موثقة وثابتة ومتجه إلى أصل محدد ودائم الثبات، مما أكسب النص الأدبي معانٍ لا نهائية.

تحولات معرفية

مسألة اعتبار النص النقدي مادة إبداعية مستقلة ليست جديدة ولا ابتكاراً لم يجر العمل عليه من قبل، ففي الوقت الذي انفتح فيه النص على «اتساع المعاني»، استفاد النقد الأدبي في أن يتحول من دراسة وتقييم وتفسير الأدب والمناقشة الفلسفية للأهداف والأساليب، إلى كتابة أدبية مستقلة، وبدلًا من أن يصبح كلاماً ثانوياً، أو بتعبير الفيلسوف والأديب أبي حيان التوحيدي «الكلام على الكلام»، يستحيل نصاً قائماً بذاته، وإن ظل مرتبطاً بالنص المدروس.

وبعيداً عن ضلعي العملية الإبداعية «المبدع والنص»، يهمنا هنا الضلع الثالث «القارئ»، مع الانطلاق من مبدأ أن كل قارئ ناقد، خاصة وقد أصبح القارئ بطل هذا العصر الحر. كما أنه أصبح مفهوماً نظرياً أكثر منه واقعاً تجريبياً وفعلياً، وبات مرمى العمل الأدبي، في ظل ما بعد الحداثة، إحالة القارئ إلى منتج للنص لا متلق استهلاكي وكفى.

ومع تكريس ما بعد الحداثة، بات الناقد مجموعة نصوص أيضاً، فضاء ترسم عليه اقتباسات تتألف منها الكتابة، وهو أحد العيون في القراءة، وعبره يقرأ النص نصوصاً أخرى، فيسع الحقل المتبادل بين النص والنصوص الأخرى، وبين القارئ وخبرته، وبين القارئ وخبرة النص. وعرفت إطلاق يد الناقد بحرية القراءة التي تعني في النهاية حرية النص وتؤول إلى حرية الثقافة وتعددها وانفتاحها؛ فالناقد يتحول من متفاعل مع نص ما إلى منتج النص ومحدد المعنى، وهذا الدور راجع إلى رومانسية ما بعد الحداثة في إيمانها بالذات، باعتبار أنه لا يوجد تفسير نهائي ومغلق لأي نص.

مغالاة تفكيكية

في المقابل، يرى البعض أن ما بعد الحداثة واستراتيجياتها، وفي القلب منها استراتيجية التفكيك، غالت في الاهتمام بالنص النقدي على حساب النص الإبداعي، قيد الدراسة. 

وتجاوز النفد التفكيكي الدراسة التقليدية، وطرح ما يسمى النص النقدي الذي أصبح له كينونته المستقلة عن النص الإبداعي، واستبدل التفكيكيون بمفهوم الدراسة النقدية مفهوماً جديداً وهو «النص النقدي». الأمر الذي جعل عدداً من النقاد العرب يرون في تجربة استراتيجية التفكيك، مجرد تأكيد فتح المشروع النقدي أبواب الجحيم على مصارعها أمام الإبداع والتلقي على السواء.

وفي رأيي الاهتمام، أو حتى المغالاة في الاهتمام، بالنص النقدي لم يكن من نتاج التفكيك وحده؛ فقد بدأت المسألة في مرحلة سابقة، وبالتحديد منذ الدراسات البنيوية للنص. كما أن الاعتراض على إنتاج نص نقدي موازٍ يكشف عن رؤية صاحبه للنص النقدي باعتباره نصاً ملحقاً بالنص الإبداعي، بالتالي النظر للنقد بوصفه عملية تابعة ولاحقة زمنياً ومعرفياً ومقامياً.

ندرة عربية

عربياً، نستطيع القول إن «النص النقدي» كمفهوم بديل للدراسة النقدية تعرض لعمليات استبعاد، وكانت السلطة الأولى التي واجهت «النص النقدي» هي السلطة الأكاديمية بأقانيمها ومبادئها الموسومة ب«الرسوخ»، التي استبعدت تدريس هذا النص، في مراحل الحياة الأكاديمية الأولى، الليسانس مثلًا، مع التأكيد على جريان هذا الاستبعاد دون قرار رسمي، وإنما استناداً إلى عرف أكاديمي ومنحنى منهجي، مرت به الجامعة.

ولفهم واكتشاف ديناميات عدم إتاحة الفرصة لخط فكري ما في أن ينجح في فترة تاريخية محدودة، يستلزم تقصي التحولات التي أجريت في مسار النهج/المنهاج النقدي العربي، بخاصة الدرس الأكاديمي منه، الذي بدأ تقليدياً، ثم تلازمت التقليدية مع التحليلات النفسية والاجتماعية وصولًا إلى المناهج اللغوية التي أسس لها العالم اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور، بشكل مباشر وغير مباشر، كالبنيوية وما بعدها، بالتالي ترتبت العقلية البحثية والأكاديمية على درس انطباعي في وجوه، أو درس ينحاز إلى الأفكار النسقية المنضبطة، في وجوه أخرى. 

حضور ضئيل 

كذلك عانى «النص النقدي» بالمفهوم الذي وضحناه، الاستبعاد من الحلقات البحثية والمؤتمرات الجامعية والأكاديمية، وكان حضور الكتابات النقدية «الإبداعية» حضوراً ضئيلًا إذا قورن بحضور غيره من الخطابات في هذه المؤتمرات؛ فضلًا عن الاستبعاد من النشر المؤسسي، ونلاحظ عدم اهتمام المؤسسة الثقافية بهذه الخطابات، بجانب الاستبعاد من النشر في الدوريات بخاصة المحكمة.

وبدا النقد الأدبي العربي في جله أكثر ميلًا إلى تبني أيديولوجية، والحكم على النصوص الأدبية على أساس التزام النقاد بهذه الأيديولوجية، ومثّل هذا القول وجهة نظر مؤثرة للغاية بين المفكرين المحافظين المعاصرين، من دون أن تتخلص هذه الخطابات من النماذج النقدية التقليدية مثل الخلاص والبوح، ليصبح النقد الإبداعي في قلب المعمعة، ويتركز عمل الناقد على الزيادة في صدع كان موجوداً من قبل، منتجاً ابناً بائساً هو «الكتابة».

ويتخذ مسار النقد كجنس إبداعي مستقل موقف من مفهوم النقد ذاته، بما يمثله من سلطة على العمل الفني، وربما لا يوجد معيار سوى قدرة استفزاز النص الأدبي لدرجة أن يجد الناقد نفسه مشدوداً لإعادة إنتاجه، فيكتب نصاً آخر بتأثير النص الذي قرأه، بالتالي يصبح النقد «موقفاً من العالم» ومكملًا لكتابة أخرى، أي رؤية شاملة وتساؤلية.

هنا يبرز شرط، مفاده ألا يبدأ الناقد بتساؤلات فارغة لا علاقة لها بالواقع، وإنما من الضروري التشديد على وجود السعي لطرح سؤال يمس الآخرين ويشكل هاجساً لديهم، ويكون له دوره في رحلة المعرفة. بذلك لا تصبح مقاومة الناقد لأي أفكار مسبقة عملية «زائفة» أو مسألة انعزالية عن مسارات الواقع الثقافي والاجتماعي؛ وساعياً إلى خلخلة السلطة الأكاديمية والإبداعية التي يكتسبها النص الإبداعي من خلال مقاومته لما هو سائد، وخلخلة النسق الثقافي المهيمن بين خطاب «نقدي وإبداعي» مضاد للتسمية وللتعريف، ومقاوم للشائع والمعروف والمسلم به.

حدود وأهداف

تستهدف الكتابة النقدية الإبداعية، أولاً وقبل كل شيء، توسيع المحادثة الأدبية بين النص والمؤلف والقراء الآخرين، لنقُل توسيع المحادثة بين أنفسنا، وتحديد «ما يمكن» أن يعنيه النص، ولا نقول «يعنيه» كقول نهائي، بالنسبة لنا كأفراد ومجتمعات، ويمكن للعمل النقدي أن يفعل أكثر بكثير من إزالة الغموض، وزعزعة الاستقرار، والتفكيك، والفضح، وفك الشفرة، كما تذكرنا الناقدة الأمريكية والمحاضر بجامعة فرجينيا ريتا فيلسكي في مؤلفها «حدود النقد»، وعلى نحو آخر، يمكن للنقد «إعادة صياغة التصورات وإعادة تكوينها وصنعها» بدلًا من مجرد التركيز على التنقيب عن الأسباب والشروط والدوافع.

تحدٍّ

يستلزم في أي كتابة نقدية، كي تكون مؤثرة وقوية أن يتضح للقارئ وعي الناقد بالمنهج أو الاستراتيجية التي يعتمد عليها؛ ومن خلال هذا الوعي تصبح القراءة «لعبة» قائمة على مفاهيم وصور وشفرات وممارسات لا واعية، وتقاليد ونصوص سابقة تغلفها في النص المدروس وفك شفرات النصوص التي تشبه المتاهة.

ويدخل الناقد إلى قراءته غير مدفوع برغبة الفهم أو الشرح وحدها، ولا برغبة السيطرة على النصوص فحسب؛ وإنما منتبه جلّ الانتباه لطبيعة المادة المدروسة، وواع بصعوبة المهمة، متسلحاً بالشجاعة، وهي شرط رئيسي في القراءة المغايرة، أو لنقل القراءة المبدعة، الشجاعة ذاتها التي تدفع إلى المراوغة والتحايل على أسس جامعية وأكاديمية «متكلسة» لا تزال في كثير من جوانبها تنعم في أطر تقليدية، وإن اتخذت الحداثة حلية في بعض الأحيان، وقد يكون الحديث عن النقد ككتابة إبداعية ضرباً من التحدي غير المقبول أكاديمياً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"