عندما ولدت دولة كبرى هنا

00:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

«لقد ولدت دولة كبرى في الشرق».. كان ذلك توصيفاً استراتيجياً للجغرافيا السياسية الجديدة في المنطقة أطلقه «جمال عبدالناصر» عقب إعلان دولة الوحدة المصرية السورية يوم (22) فبراير (1958).

 المشاعر تدفقت كطوفان، والأحلام لامست السماء في بناء دولة قوية وموحدة «تصون ولا تهدد تحمي ولا تبدد تصادق من يصادقها وتعادي من يعاديها».

 لم يكن الوصول إلى هذا اليوم من أعمال المصادفات بقدر ما كان تعبيراً عن حقائق جديدة تتحرك، طموحات وصلت ذروتها، وصراعات تصاعدت في المنطقة.

 لا موضع  الآن  لحديث عن أية وحدة عربية، وأقصى ما نتطلع إليه تجنب سيناريوهات التقسيم الماثلة في سوريا وبلدان أخرى.

 بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا، وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل المحرمات.

 بعد حرب السويس عام (١٩٥٦) وفشل إخضاع مصر وضعت خطة أطلق عليها «استراجل». كانت تقضي بأن إسقاط سوريا يفضي مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربي.

 كانت سوريا مهددة في صميم وحدتها الداخلية ومكشوفة لتدخلات إقليمية ودولية، ومشروعات انقلابات عسكرية، أو غزو من الخارج، يقوده رئيس الوزراء العراقي «نوري السعيد»، الرجل الذي ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكرية في المنطقة.

 بحكم موقعها الجغرافي لم يكن ممكناً لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أي ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربي بأية ذريعة.

 كانت الوحدة المصرية - السورية خطوة متقدمة أكدت قدرة العالم العربي على ملء الفراغ بنفسه بعد انهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بأثر نتائج حرب السويس دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية أمريكية ضد مصالحه ومستقبله.

كما كانت تطويراً لنتائج حرب السويس، التي ألهمت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث  كأن فوران غضب على الإرث الاستعماري اندلع فيه.

 في ذلك اليوم الفريد تبدت حالة سياسية ووجدانية قد يساعد التوقف عندها على تلمس بعض ما يجري الآن تحت السطح العربي الساكن، أو المشتعل بالنار، من خلجات نفوس وأحلام محبطة.

 إنها أمة واحدة كاشفت نفسها في لحظة أمل أنها تستطيع أن تصنع التاريخ وتبني دولة منيعة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر، وأن تأخذ أحلامها إلى أرض الواقع.

بعد إعلان الوحدة كانت دمشق تنتظر وفداً مصرياً رفيعاً قادماً إليها. عندما هبطت الطائرة المصرية في مطار دمشق كانت المفاجأة صاعقة، فالذي هبط منها هو «جمال عبدالناصر» نفسه دون إخطار مسبق.

 بدأ الزحف العظيم من المدن والقرى السورية لترى بالعين رئيس الجمهورية العربية المتحدة. تدفقت على دمشق كتل شعبية أخرى عبر الحدود العربية المجاورة  خاصة من لبنان.

حملت الحشود المتدافعة سيارة «عبدالناصر» على الأكتاف في مشهد تراجيدي تاريخي يكاد لا يصدق. سهرت حتى الفجر بالمشاعل أمام قصر الضيافة. من وقت لآخر ينادونه بلا كلل: «طل علينا يا جمال».

 في فكرهم ووجدانهم تأميم قناة السويس وإحباط العدوان على مصر ومعارك التحرر الوطني ومحاربة الأحلاف الاستعمارية وتنويع مصادر السلاح والانحياز إلى الحق الفلسطيني ومبادئ باندونج.

 شيء آخر عميق ومتوارث دعاهم إلى استدعاء الأمل بالهمة. المعاني أهم من الرجال، والقضايا الكبرى تلهم الناس العاديين أنهم يمكن أن يصنعوا تاريخهم بأنفسهم، وأن يوقفوا أي امتداد جديد لقرون من الإذلال والتهميش.

 رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية - السورية، وكلها ثابتة في وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أي فعل خارجي، وتسببت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب على الوحدة في (28) سبتمبر (1961)، نفس اليوم الذي رحل فيه «عبدالناصر» بعد تسع سنوات.

 ف«مصر»  بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ  مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.

 في ذكرى الوحدة الأسئلة الكبرى تطرح نفسها: لماذا انكسر العالم العربي وفقد ثقته في نفسه ومستقبله، بعد أن حلقت أحلامه في عنان السماء؟.. كيف وصلنا إلى الكابوس؟.. ثم إلى أين المصير؟ هناك مجموعتان من الإجابات.

 الأولى  تدور حول الصراع على المنطقة ومستقبلها، فمشروع الوحدة موضوع صراع ضارٍ، وقد ناهضته قوى دولية وإقليمية ذهبت إلى استخدام السلاح والتآمر، وهذا ثابت بعشرات الوثائق.

 والثانية  تعود إلى ثغرات جوهرية في تجربة الوحدة المصرية - السورية، التي مكنت من الانقضاض عليها وتصفيتها بالانفصال بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، وهذه خضعت لمراجعات عديدة، لكنها لم تستقر على أية رؤية تؤسس لتجارب أخرى أكثر نضجاً وقدرة على البقاء حتى داهمتنا بعد عقود احتمالات تقسيم سوريا والعراق وليبيا واليمن ودول عربية أخرى تطلعت ذات يوم للوحدة بينها.

 لم تخترع ثورة «يوليو» المشروع العروبي، لكنها جسدته أملاً حياً على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها، نجحت وأخفقت، وعبرت في الأحوال كلها عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أن قوة مصر في عالمها العربي والخروج منه يفضي إلى عزلتها وتقويض ثقتها في نفسها، كما يفضي إلى إضعاف العالم العربي واستباحته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"