عادي

غذاء الكتابة

23:05 مساء
قراءة 5 دقائق
3

استطلاع: نجاة الفارس

هل يمكن أن يتحول النقد إلى مادة أدبية مقروءة؛ أي إبداع مستقل بذاته؟. يؤكد عدد من النقاد والكتاب أن بإمكان النقد ذلك إذا كان مكتوباً بلغة جميلة، واضحة وغير مُثقَل بمصطلحات عقيمة، فمن الجيد أن يقارب النقد النص الأدبي، ويتماهى معه، غير أن ذلك ينبغي ألا يجعله يتحول من وظيفته العتيدة، وهي تقويم الأعمال الأدبية ورصد جوانب الإبداع فيها.

وطالبوا في استطلاع ل«الخليج» مؤسسات النشر بأن تمنح مساحة كافية لكتب النقد، وأن تكون هناك لقاءات وندوات متعددة ليتعرف الجيل الصاعد إلى أهمية النقد.

الدكتورة هناء صبحي ناقدة وأكاديمية في جامعة السوربون أبوظبي، تقول: «لطالما كان الإبداع الأدبي والنقد متلازمين، فلا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر، لكن النص الأدبي هو الأساس الذي يبني عليه الناقد نصه، وما كان للنقد أن يوجد لولا وجود الأدب، فالنص الأدبي يغذي النقد وإذا كان متميزاً ومجدداً، سيطور النظريات النقدية التي تستمد فكرها من موضوعاته وبنيته السردية، و لا شك في أن النقد يُمكن أن يتحول إلى مادة إبداعية إذا كان مكتوباً بلغة جميلة، واضحة وغير مُثقَل بمصطلحات عقيمة يستعرض الناقد من خلالها معرفته بالمدارس النقدية، مما يجعل القارئ ينفر من قراءته، فالمقال النقدي مرآة لثقافة صاحبه. والناقد المبدع هو الذي يُركز على دراسة سياق النص واكتشاف جمالياته، وبيان نقاط الضعف فيه بنزاهة تامة، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، ويمتلك قراءات موسوعية وثقافة عريضة وعميقة في الفلسفة وعلم الاجتماع ونظريات الأدب وغيرها من المعارف ولديه، وقبل كل ذلك، حس أدبي عميق وحدس تشكل من تجاربه وخبرته يُمكنه من قراءة ما بين السطور والغوص في عمق النص الذي يعمل على تحليله وفك شفراته. وفضلاً عن ذلك ينبغي أن يكون مُلماً بالأدب العالمي ويُتقن لغة عالمية واحدة على الأقل، تمكنه من الاطلاع على ثقافات أخرى وتجارب متنوعة، عندئذ تكون المقالات النقدية مناراً يكتشف القارئ من خلالها فن الكتابة وأسراره، ويستمتع بالنص النقدي الذي يقرأه ويتعرف في الوقت نفسه إلى أدباء وأعمال أدبية لم يكن يعرفها من قبل، فيفتح الناقد بهذا خطوط الاتصال بين الشعوب ويُحفز القارئ والمبدع على قراءة عمل أدبي بعينه، أو يُعيد قراءة أعمال غُيبت لسبب ما، فيشكل بذلك ذائقة أدبية جديدة أو يرتقي بها».

مواجهةالدكتورة منى علي الساحلي، شاعرة وأكاديمية في جامعة الإمارات، تقول: «واجه النقد الأدبي منذ أمد طويل سؤالاً حول ماهيته وتصنيفه، ولم يكن ذلك  بطبيعة الحال  محل اتفاق الدارسين. فالنقد الأدبي في أبسط أدواره، صلة وصل بين الأديب والقارئ، يستمد قيمته من محيطه بحسب المفهوم السائد للأدب ووظيفته، فقد كان الناقد بمثابة الحكم أو القاضي، في عصور الأدب الكلاسيكية المستندة إلى التقاليد الموروثة، ثم صار الناقد متطفلاً على الأدب، عندما أطلق الاتجاه الرومانتيكي العنان للأديب بوصفه خالقاً لإبداعه، فتراجعت أهمية النقاد حتى بعد انحسار الرومانتيكية، ونُظر إليهم على أنهم أدباء «فاشلون»، أو هم أشبه بحراس مقابر، بتعبير سارتر».

وتضيف: «من هنا، حاول النقاد أن يفيدوا من التطور الكبير الذي شهده العلم، ويستخدموا مناهجه في دراسة الأدب، طامحين إلى تحويل النقد إلى علم مستقل، له أصوله وأدواته الإجرائية. وفي ردة فعل على ذلك، نادى النقاد بأن يعود النقد إلى أدبيته وينصب على النص الأدبي، وتسببت البنيوية  بما أغرقت فيه من تجريد للعمل الأدبي من جانبه الإنساني  في تحول النقد عنها، فظهرت السيميائية والنصوصية ونظرية استجابة القارئ التي فتحت المجال واسعاً للتأويل، وأبعدت النقد عن «العلمية»، وعن طابعه الاختصاصي ليصبح القارئ المثالي، هو الذي يكسب النص معناه، ولم يعد القارئ متلقياً سلبياً؛ بل صار مشاركاً في «إنتاج» النص، ومن ثم أصبح النقد نشاطاً خلاقاً، وباتت قيمة النص الأدبي إنما تقاس بمقدار ما تستثير من طاقات إبداعية».

وتتابع الساحلي: «مع تحفظي على ما يحمله انفتاح النص على التأويلات من إيحاء بتفريغه من محتواه، وهو من تداعيات فلسفة الحداثة الغربية وما بعدها، فإنني أرى من الجيد أن يقارب النقد النص الأدبي، ويتماهى معه، غير أن ذلك ينبغي ألا يجعله يتحول من وظيفته العتيدة، وهي تقويم الأعمال الأدبية ورصد جوانب الإبداع فيها، وما تحمله من قيم فنية، فهذه الوظيفة الأصيلة للنقد تقوم عليها أعمال تاريخ الأدب والبحث في الصلات الثقافية، والمؤثرات الفكرية، وهي بطبيعة الحال تحتاج إلى مؤهلات وخبرات لا تتأتى لكل قارئ».

رؤى ونظريات

الشاعر ناصر البكر الزعابي، يقول: «يعد النقد مادة علمية مهمة معنية بدراسة الأدب بشكل عام منذ القدم، علماً بأنه يرتبط بشكل وثيق بالرؤى الفلسفية والنظريات التحليلية، ولا يمكن أيضاً أن نهضم حق النقاد الذين شكلوا رافداً حيوياً للثقافة العربية، فالنقد مادة أصيلة تشكل عصب ثقافة الشعوب، فهو الطبيب المعالج المشخص لأبرز العلل الثقافية، وهو العين التي ترصد الجوانب الجمالية في الأدب، وما أحوجنا اليوم إلى كتب النقد التي تعمل على تفكيك النصوص وقراءة الإبداع العربي المميز، وإماطة اللثام عن أبرز السلبيات التي تعيق التطور الثقافي، ومجابهة التقليد والاقتباس والاستسهال المكرر الذي ضرب مفاصل الأدب في العقدين الأخيرين».

ويلفت الزعابي إلى أن الناقد لم يأت من فراغ؛ بل هو نتاج عمل ودراسة وبحث واستقصاء، لذلك فإن النتاج النقدي يستحق أن يكون مادة مقروءة وعلماً مستقلاً بحد ذاته، وقد شكلت مادة النقد جزءاً مهماً في اللغة العربية عبر فروعها المتعددة، فالنقد هو حلقة الوصل الحقيقية بين الكاتب والجمهور. 

وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجها النقد في عصرنا الحاضر، من مواجهة حملات التشكيك والانتقاص وتهميش وتقليص دوره في الحياة الأدبية، نتمنى من مؤسسات النشر أن تمنح مساحة كافية لكتب النقد وأن تكون هناك لقاءات وندوات متعددة ليتعرف الجيل الصاعد إلى أهمية النقد.

وجهان لعملة واحدة

يقول الدكتور أحمد عقيلي، ناقد وأكاديمي: «حين نتحدث عن العملية الإبداعية على اختلاف فنونها وأنواعها، شعراً كانت أم قصة أم رواية، فلا شك في أن أذهاننا تتجه إلى مرآة هذه العملية الإبداعية.. إلى ريشة الناقد ومحبرته. فالنقد والأدب صنوان لا يفترقان».

ويضيف: «هل يمكن أن يصبح النقد فناً قائماً بذاته مثله مثل الأدب؟. لعلي أناقش هذا السؤال من خلال تجربتي الشخصية ومؤلفاتي النقدية التي تراوحت بين نقد الشعر والقصة والرواية من جهة، ونقد النقد من جهة أخرى. لا شك في أن النقد انعكاس للمادة المدروسة وهي مادة لا تقتصر على الجانب الأدبي والفني؛ بل تشمل شتى ميادين الحياة، فهناك النقد الاجتماعي والنقد الفني والنقد الفكري وغير ذلك. فالنقد انعكاس المادة المنتجة من وجهة نظر الناقد نفسه، ووفقاً لمعاييره التي يوظفها في ممارسته النقدية، وبالتالي لا يمكن للنقد أن يثبت وجوده وفاعليته بشكل معزول عن جوانب الإبداع والفن وحتى الحياة».

ويؤكد الدكتور عقيلي أن النقد ضرب من ضروب التحليل والتفكيك والتركيب، على اختلاف أنواعه ومناهجه، سواء كان نقداً نفسياً أو بنيوياً أو اجتماعياً أو تاريخياً أو حتى تكاملياً، فهل لهذه العمليات المعقدة أن توجد وتكتب لها الحياة من دون عمل مدروس، أو ظاهرة تخضع للممارسة النقدية؟. لا شك في أن الإجابة ستكون بالنفي، حتى لو كان حديثنا عن نقد النقد، فهو في النهاية ممارسة نقدية على ممارسة نقدية، يمكننا أن نتقبل وجود الشعر مستقلاً عن الرواية والمسرح، والقصة مستقلة عن المقالة والرسم. أما أن نجد نقداً مستقلاً بذاته دون مادة يدرسها ويناقشها، فهذا ما لا يمكن تحققه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"