عدة أفراد في فرد

01:16 صباحا
قراءة دقيقتين

الفرد  أي فرد  هو في نهاية المطاف واحد، من وجهة النظر «الفيزيائية»، إن صح القول، فلكل واحد من البشر بدنه وهيئته وملامحه، وشخصيته الخاصة به التي تميزه عن غيره، لا في الشكل وحده وإنما أيضاً في السلوك والخُلق والميول. 
مع ذلك، بوسعنا القول عن شخص بعينه، إنه مجموعة أفراد في فرد واحد، بالنظر إلى تعدد مواهبه واهتماماته.
الأمثلة من حولنا كثيرة. يحدث أن يكون أحدهم طبيباً ناجحاً، وأديباً مميزاً. طبعاً يحدث، أيضاً، أن يدرك  في مرحلة من مراحل حياته  أنه خُلق للأدب لا للطب، فيغادر مهنته وينصرف للأدب، كما هو حال الأديب الكبير يوسف إدريس، مثلاً، ولكن بوسع آخرين أن يستمروا في الجمع بين الأمرين طويلاً، كما هو الحال مع أنطون تشيخوف، وقد يستمر هذا الجمع حتى نهاية العمر.
في التراث العربي الإسلامي كان العالم أو المفكر في الأصل، رجلاً موسوعياً، فهو يجمع بين الفقه والطب والرياضيات والعلوم الفلسفية. لم تعد الحال كما كانت عليه، ولكن عصرنا الحديث لم يخلُ من أسماء بارزة يمكن وصفها ب«الموسوعية»، بينها السوري سامي الدروبي، والمصري ثروت عكاشة والسعودي حمد الجاسر.
ومع تفرّع المعارف والعلوم، فإنه يمكننا الحديث عن أفول زمن الموسوعيين، وإن لم يأفل تماماً، فالأرجح أنه سيختفي في المستقبل المنظور، ومع ذلك نجد أن مؤلف كتاب «سارتر بقلمه»، فرنسيس جانسون، تحدث عن صعوبة تصنيف جان بول سارتر، الكاتب والفيلسوف الفرنسي، في خانة بعينها. فالرجل الذي خلّف ما لا يقل عن ثلاثين مجلداً، إضافة إلى مقالات لا تحصى، وكلها تجمع بين الفيلسوف والروائي والباحث والكاتب المسرحي والناقد، وهو إلى ذلك، كما يصفه واضع الكتاب، صحفي وكاتب سيناريو وخطيب.
«كل هؤلاء الرجال معاً ليسوا إلا رجلاً واحداً»، يقول جانسون، وهذا الرجل الواحد وضع أمامه، على الرغم من تنوع الحقول والاهتمامات التي نشط فيها، مهمة الاشتباك مع قضايا عصره، السياسية منها بشكل خاص، ما جعل منه واحداً من أكثر الشخصيات الأدبية والفكرية إثارة للجدل، في فرنسا وخارجها.
ليس بوسع كل المبدعين أن يكونوا نسخاً من سارتر؛ أي مجموعة رجال في رجل واحد، وليس مطلوباً منهم أصلاً أن يفعلوا ذلك. اليوم، ونحن محاطون بأطروحات تصف عصرنا بعصر المعلوماتية، وجب القول إن المعلومات بذاتها لا تخلق نمطاً جديداً من المثقف الموسوعي الذي هو على بيّنة من كل القضايا والمعضلات، فالأصل ليس كثرة المعلومات، وإنما امتلاك الرؤية الفكرية والفلسفية التي تجعل منها نسقاً متماسكاً.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"